أن تمتلك فكرة مستندة إلى إرث الآباء والأجداد، ثم يتحوُّل الحلم إلى حقيقة وواقع يغيِّر منطقة جغرافية بالكامل، من موقع طارد إلى بوتقة تجمع السُيَّاح من أنحاء العالم، فأنت هنا تتحدث عن صاحب مشروع (إسكاليه)، مفتاح السياحة في جنوب مصر فكري الكاشف، الذي يتحدَّث من أبو سمبل، ويتغنَّى من أرض أصبحت واحة، بل رئة تتنفس عبق رمسيس الثّاني ونفرتاري.

حلم الإلفة والمودة 

وبصيغة المتكلم يقول الكاشف: عشتُ وترعرعتُ في كنف أجدادي داخل بيوت يملؤها ويحيطها الحبُّ والمودَّة والإلفة في مدينتي أبوسمبل قبل الهجرة اللَّعينة.

عشت طفولتي في المدينة الفاضلة بكل ما يحمله الوصف من معانٍ جميلة، لا تلك (اليوتوبيا) المتخيَّلة. كنتُ صغير السِّنِّ، لكنّي مازلت أتذكَّر كلَّ شيء حولي، من نخيل وخضرة وبيوت واسعة ورحبة، وزرع على مدِّ البصر، حتى السّواقي بأصواتها المميَّزة لا يزال أنينها الجميل يصافح أذني، كما لو كانت أمامي الآن.

أذكر ساقية جارنا الفلاني، وساقية خالي، فكلُّ ساقية لها صوت يميزها من الأخريات، حتى ألعابنا البسيطة، وسهراتنا نحن الأطفال تحت ضوء القمر أتذكَّرها كأنّها بالأمس. لم ولن تمحى من مخيَّلتي أبد الدهر. 

اللَّحظات القاتلة

جاءت اللَّحظة المميتة لكل نوبيٍّ عاش بأرض النُّوبة بامتداد ٣٦ قرية. هجَّرونا واقتلعونا من جذورنا، ووعدونا بالجنَّة الموعودة، حتى غدت كالخيال في عقولنا، لكنا صحونا على واقع مرير.. صحراء جرداء لا تمُت بصلةٍ لما كنَّا عليه.. إنَّها (جهنم الحمرا). 

عشنا سنوات نعاني قهر التهجير، لم استرح في قريتي؛ بوصفي نوبيَّاً مهجَّراً في كوم أمبو، فليست هذه قريتي الحقيقيّة، إنها قرية زائفة. 

لم أحتمل كل هذا الوجع، فسافرت إلى خارج البلاد، ومكثت في بلاد الله بين أوربية وأفريقية سنوات طويلة، ورغم ذلك ظلَّت نوبيتي وقريتي أبو سمبل لا يبارحان عقلي وقلبي، فأينما ذهبت كانا معي، حتى تعبت من الغربة والحنين والشجون فعدتُ راجعاً إلى الديار.

الحنين للجذور

عدتُ إلى منطقة أبو سمبل حول المعبد الشَّهير في أقصى جنوب مصر، وبالقرب من حدود السُّودان، حيث نوبتي السُّودانية. بقيتُ بجوار المعبد بجسدي، لكنَّ قلبي ظلَّ معلقاً بالماضي، ومترعاً بالحنين إليه، وصورة قريتي الأصلية لا تبارح خيالي. 

أبو سمبل ما قبل التهجير بنخيلها، وسواقيها، وبالخضرة المحيطة في كل مكان، لكن الواقع الحالي الذي أعيشه وقتها أي في بدايات الثمانينيات من القرن العشرين شيء، والحنين للذي كان وأُغرق شيء آخر. 

ساءلت نفسي.. إلى متى أحنُّ، واجترُّ الذكريات؟ ماذا أفعل لأسهم بدوري في تحقيق حلم النُّوبة الأصليَّة؟ 

القوّة الناعمة

غيري من النُّوبيين يكتبون عن تاريخ النّوبة، ومنهم من يكتب عن التَّهجير، ومنهم من يكتب أدباً، وأيضا مطربون نوبيُّون يغنون عن نوبتنا القديمة. ومن الفاعلين من أقام اللقاءات النُّوبيَّة وغير النُّوبيَّة، وتكلم شارحاً ما نحن فيه من حنين وشوق لنوبتنا التي كانت. 

أنا مطرب أشدو باللّغة النُّوبيَّة، ويسمعني النّوبيون وغير النوبيين، فتهيج نفوسهم شوقا للنُّوبة، فالغناء من قوى النُّوبة الناعمة، أنا أقوم بهذا الدُّور، ثم أنَّني صاحب علاقات وطيدة مع المفكِّرين والفنَّانين المصريين والسُّودانيين عامَّة، فنحن منهم وهم منَّا. وأغني باللُّغة العربيَّة للجميع. لكن يخامرني إحساس بأنَّ عليَّ واجب إضافي، علي دور يتكامل مع غيري. 

البيتُ النوبيُّ

هنا راودتني فكرة عمل بيتِ نوبيٍّ، بيت يرتكز على أطلال بيوتنا، وقُرانا الغريقة تحت بحيرة السَّد العالي، أو ما قيل عنه بحيرة ناصر بعمق ٦٠متراً تحت المياه. كان عليَّ أن أقيم بناءً على ضفاف البحيرة لكي يحمل جزءاً من ذكرياتنا الماضية. بناءٌ ينبعث منه عبق التاريخ، وتتنسم فيه رائحة الأرض الغريقة. هنا سيكون دوري عمليَّاً في أرض الأسلاف. 

هذه الفكرة التي ظلَّت تراودني تعاظمت وتجسدت يوماً بعد يوم، فاستجبت لها، واتَّخذت قراري. كنت في أوربا القارة التي هي مطمع الملايين من شباب الشّرق الأوسط كله، ورغم وجودي هناك في القارة العجوز بكل إغراءاتها، إلا أنَّني استجبت لـ (الندَّاهة النُّوبيَّة) فرحلت عن أوروبا، وتركتها ورائي صوب محبوبتي.

بدأت في تنفيذ فكرتي، بدأت أحول حلمي إلى حقيقة، فاشتريت قطعة أرض، وأقمت إقامة مستدامة في وقت كانت فيه أبو سمبل السِّياحيَّة مدينة صغيرة، لا يسكنها سوى قلَّة قليلة من البشر، وأغلبهم من إخوتنا الصعايدة ممن استوطنوا فيها بعد مشاركتهم في رفع معبد رمسيس الثاني، ومعهم عدد قليل من النُّوبيين. 

مدينة أبو سمبل وقتها كانت تحتضن فندقين فقط، ولا يوجد طريق بري مسفلت، ووسيلة المواصلات الوحيدة كانت الباخرة السُّودانية التي تجوب البحيرة ذهاباً وإياباً، حيث تتحرك من ميناء السَّد العالي خلف الخزًّان، وتمضي ثلاثة أيام متواصلة وهي تبحر في البحيرة حتى تصل إلى مدينة أبو سمبل، حيث تفرغ حمولتها من البشر، والمواد الغذائية؛ لتواصل رحلتها إلى السُّودان. 

إسكاليه

شيَّدت الدولة طريقاً بريَّاً مسفلتاً بطول ٢٦٥ كيلو متر، بعد حريق الباخرة السُّودانية، ومن هنا حدثت الطفرة التي عاشتها المدينة، حينها كنتُ قد أكملتُ بناء البيت النوبيِّ أو بيت التراث النوبيّ (إسكاليه)، التي تعني بالنُّوبيَّة السَّاقية.

الأرض التي أخذتها كانت مقلباً للقمامة ترتع فيها الحشرات، فحولتها إلى واحة وارفة، والحمد لله. أقمت عليها ساقية حقيقية، وسقيت الأرض، التي شملت الأرض التي تحيط بالفندق. 

وزرعت الأشجار المثمرة، والنخيل، وأقمتُ حظيرة للمواشي والدُّواجن، حاولت أن أجمع كل الخيرات في هذا المكان، فأنتجنا الحليب، والبيض، واللُّحوم من الطيور، وزرعنا معظم الخضروات والفاكهة التي تخدم مكان البيت النوبيِّ، بطريقة طبيعيَّة خالصة (أورجانيك)، فحرصنا على عدم استخدام الأسمدة الكيماويَّة في زراعتنا، بل اعتمدنا على السَّماد الطبيعيّ. 

بدأت مشواري بالبيت النوبيِّ، فكان الحوش السّماويُّ المفتوح، تحيط به الغرف المنزليَّة، وقد بدأنا بخمس غرف، ثم ارتفعت إلى (16) غرفة، فضلاً عن مطعم، وقاعة استقبال خارجي،ة ثم التراس الواسع الرحب. 

خصَّصنا أيضاً التراس لاستقبال الضيوف، وتناول المشروبات، وهو مسرح كبير مفتوح تقام عليه الحفلات النُّوبيَّة المميزَّة، والتراس ملحق بالحوش السَّماويِّ ببهو كبير، وفوقه قبة ضخمة تضمُّ مكتبة كبيرة فيها كتب عربيَّة وأجنبيَّة بكل اللُّغات. 

أقمتُ البناء بالقباب، والقبو بالطوب الني، وهو خليط من طينة الأرض السَّمراء مع التِّبن ناتج قشور القمح، وطريقة تجهيزه أن يخضع للتخمير لمدة ١٠ أيام، وبعدها يكون البناء به، وقد استعنتُ بالصمغ العربيِّ من حلفا من صديقي وأخي الحاج مبارك عبد اللطيف. أما واجهة الفندق فهو من الطَّفلة والصَّمغ ليشد البناء ويقويه.

أفكار للمستقبل

أنهيتُ البناء بالكامل، وكنت أودُّ أن يقام عليه ورش لتعليم صناعات نوبيَّة اندثرت، مثل: الحلي النُّوبيَّة، والفخار النوبيّ مثل الكرج (الصينية) من الخوص، لكن ضعف الإمكانات حالت دون تنفيذ الفكرة. 

اليوم، وبعد ٣٥ سنة قضيتُها في أبو سمبل السياحيَّة تحت سماء بلادنا الغريقة، أدعوكم بكل حب وفخر إلى زيارتها والتمتُّع بجوها الدافئ شتاءً، وستجدون صفاء سمائِّها وجوَّها النقي من كل شوائب المدن الأخرى.

أبو سمبل تحولت إلى مزار سياحيٍّ عالميٍّ مميَّز، يأتيها السُيَّاح من كل بلادِّ العالم، لوجود أهم معبدين، هما: معبد رمسيس الثَّاني، ومعبد زوجته نفرتاري جميلة الجميلات، وفي كل ليلة يقام عرض برامج الصّوت والضّوء تحت سفح معبديها، والعروض تقدَّم بأصوات عذبة موحية بالماضي، وتحكي قصة رمسيس الثّاني، وغزواته وانتصاراته، وحبّهِ لجميلة الجميلات زوجته المفضّلة لديه. 

وأصبح بالمكان أيضاً سوق كبير يحوي كلّ شيء، ويعتمد على منتجات أسوان، وبعض المزارع المقامة داخل حدود المدينة، حيث يعرض الجميع ما لديهم من منتجات من خضروات وفاكهة خاصة نبات الكركديه. 

جزيرة البطّة

تمتاز المنطقة بصيد الأسماك وأشهرها البلطي والسَّاموس، وكلها تورد طازجة من البحيرة رأساً إلى السُّوق. أما في فصل الشّتاء فتزداد وتيرة رحلات الطيور المهاجرة من أوروبا إلى أفريقيا مروراً بمدينتنا، وهي بأعداد هائلة تملأ سماء أبو سمبل ولها عشَّاقها. فيما تمتاز جزيرة البطّة، البعيدة نوعاً ما بالأعداد الهائلة من التماسيح، وهي ممنوع صيدها بأمر من الدولة، لكن يسمح بتصويرها. 

في البيت النوبيِّ (سي فكري) كما يطلق علينا الأجانب، توجد بواخر سياحيَّة تقوم بالرَّحلات النيليَّة، وهي بواخر متعدِّدة الأحجام، فالصَّغيرة منها تحمل أعداداً محددة من السّيّاح، وهناك الكبيرة التي تحتوي على ثلاث حجرات نوم. وعلى ظهر تلك البواخر الأنيقة يتناول السّيّاح الأجانب والمصريون وجبات الإفطار والغداء، وتبحر في رحلات تعدُّ من أروع الرّحلات على مستوى العالم بشهادة الزّوار كافة، فالبواخر تبحر مُدَّة ساعتين على سطح البحيرة، وتحت أشعة الشمس الدافئة، وأمامها المعبدان الشهيران.

 سحر الطبيعة

قبل 35 عاماً لم يكن في مدينة أبو سمبل سوى فندقين فقط، أما الآن فهي تحتضن أكثر من١٥ فندقاً، معظمها مشيَّدة على طراز البيوت النُّوبيّةً، وقد كانت لنا الرّيادة في ذلك بإنشائنا بيتنا الفندقيّ النّوبيّ (إسكاليه)، وعلى خطانا أتى النوبيون، وقد تيسَّرت سبل الوصول إلى أبو سمبل، فهنا يوجد طيران من مطار أسوان إلى أبو سمبل بمسافة نصف الساعة طيران فقط، كما أنًّ هناك خطاً لأتوبيس النقل العام، حيث يتحرك من أسوان في السَّاعة الثّامنة صباحاً؛ ليصل إلى أبو سمبل في الثانية عشر ظهراً، والعودة السّاعة الواحدة ظهراً ليصل إلى أسوان في الخامسة مساءً. وطوال اليوم هناك حركة للسًّيارات الخاصَّة والسَّياحيَّة والعاديّة تجوب الطريق ذهابا وإياباً. 

كاتب

  • نوبيانا مجلة ثقافية عامة شهرية، تصدر مؤقت ا دورية كل ثلاثة أشهر، في اليوم السابع من شهر الإصدار، مجال الاهتمام الرئيس: تعنى بحضارة النوبة وثقافتها، وتسعى إلى إب ا رزهما، من خلال بحوث علمية ومقالات موضوعية، كما تهت م بالتوثيق للرموز النوبية، والباحثين المهتمين بالحضارة النوبية، وتسعى إلى رصد حركة المجتمع النوبي المعاصر، وطرح قضاياه. وهمومه، ووضعها في بؤرة الاهتمام. الفئة المستهدفة: المجتمع النوبي في المنطقة النوبية وخارجها، والباحثون والمهتمون

    View all posts