نوبيون أم كوشيون؟ لعلّه السّؤال الذي يدور في خلد كثير من المهتمين بالهُويّة الثّقافيّة للمنطقة النوبية. أيّهما أحقّ بنا؟ وأيّنا أحقّ بأيّهما؟ ولماذا؟ وكيف؟

في سودان ما زال يبحث عن هويته، يعتقد النوبيون أنّهم – إلى جانب المجتمعات الأصيلة الأخرى في البلاد – يلونون تلك الهُويّة، ويمنحونها عمقها التاريخيّ بل أصالتها. لكن القضيّة ليست بتلك السّهولة في وطن ما زال يعج بالتناقضات والتعقيدات، وتتقاذفه الأهواء بين التعريب، أو التغريب، أو الاثنين معاً.

لكلّ ذلك حملنا هذا الهمّ الثقافيّ، ووضعناه على طاولة، أحد العلماء الأجلاء لنبدأ معه من خلال هذا الباب ضخّ (جرعات ثقافيّة)، وعلى حلْقات متتالية، ننفض من خلالها الغبار عن أوراق التاريخ المهملة، لعلّنا نعيد اكتشاف المزيد مما يعزّز وعينا بثقافتنا النّوبيّة، ولنضيء من خلاله الطريق نحو غد أجمل نستحقه ويستحقنا. ذلك أنّ الوعي، ومعرفة الذات النّوبيّة هي السّلاح الأمضى في مواجهة التّحدِّيات التي تكاد تعصف بمجتمعاتنا.

بما أننا بصدد تلقي جرعات تدريجية من الوعي بالتاريخ والجغرافيا والثقافة النّوبيّة، فإنَّ أول سؤال طرحناه على البروفيسور يحيى فضل طاهر كان حول: من نحن؟

نوبيون أم كوشيون؟

يقول البروف طاهر:

– موضوع الأسماء والمسمّيات في تاريخنا النوبيّ شائك، ومعقد. فهناك أسماء كثيرة ذكرت في المصادر التاريخيّة، بعضها استمرَّ، وبعضها اختفى أو جرى تحريفه قليلاً. وفي بعض الأحيان، المصادر لا تعطيك المعلومات الكافية لتحدّد المكان أو المجموعة التي يقصدها الاسم.

ويمضي طاهر قائلاً:

هناك أسماء كثيرة للأماكن والمجموعات، وردت في النّقوش، وفي أوراق البردي، وفي الكتب المتاحة. وفيما يختصّ بالمنطقة النّوبيّة، أو جنوب مصر عموماً، وبالترتيب التاريخيّ، نجد أنّ تاسيتي (أرض الأقواس)، ربما يكون هو أقدم اسم ورد في المصادر المصريّة في زمن الأسرة الملكيّة الأولى ( ٣١٠٠ – ٣٠٥٠ ق م)، ثم نحسو أو نحسيو، للدلالة علي المجموعة السّكّانية جنوب مصر عموماً في زمن الأسرة السادسة بالمملكة المصرية القديمة (2345 -2181 ق)، ثم ظهر اسم واوات للدّلالة علي شمال الشّلال الثّاني وكوش لجنوبه في زمن الأسرة ١١-١٣ (٢٠٥٥ -١٦٥٠ ق م) في زمن المملكة الوسطى، أمّا اسم نوبا، فقد ظهر في عصر الأسرة الثامنة عشر في نقش للفرعون تحتمس الثّالث (١٤٥٤ ق م) وتبع نوبا اسم كوش. وهكذا نجد أنًّ الاسمين وردا للمكان نفسه، والمجموعات السّكّانيّة نفسها جنوب مصر.

بسؤاله عن دلالات ذلك، يقول طاهر:

– يعني ذلك أنّنا كوشيون ونوبيون، فقط الأسماء هي التي تتبدَّل، كما دولتنا اليوم تسمّى السّودان.

هذا يقودنا إلى تساؤل آخر يطرحه كثير من العامّة عن العلاقة بين النّوبة في غرب السودان ونحن النوبيين؟

– ليس هناك نوبة ونوبيون، كلهم نوبة أو نوبيون. لكن عوضاً عن ذلك يمكننا القول: النّوبة والنّوبيون في الشّمال، أو النّوبة والنّوبيون في غرب السّودان. لكن بشكل عام، هناك آراء كثيرة حول علاقة نوبة الشمال، والجبال. منها على سبيل المثال أنّه كان هناك نّهراً اسمه النهر الأصفر، أي: وادي هور الذي كان نهراً جارياً من تشاد إلى النيل، ويلتقيه عند منطقة الباجا بدنقلا. هذا النهر حسب المؤرخين كان يتدفق في هذا الاتجاه خلال الفترة ١١ ألف ق. م، وحتى ٤ ألف ق. م، ليجفّ بعد ذلك. وتشير المراجع إلى وجود سكّان على ضفاف النّهر، وعندما جفَّ النهر توزّع الناس، فمنهم من هاجر شرقاً أي باتجاه نهر النّيل، ومنهم من هاجر جنوباً نحو جبال النّوبة، ومنهم من هاجر غرباً.

وهل كان جميع هؤلاء من إثنية واحدة هم النّوبيّون؟

– نعم هذه المجموعات المهاجرة كانت من إثنيّة واحدة تتكلّم بلغة واحدة وتجمعهم ثقافة واحدة. ومن خلال الهجرات المختلفة، اختلطت هذه الأثنيّة مع سكّان المناطق التي هاجروا إليها. إذن نوبيو الشّمال، ونوبيو الجبال، من مهد واحد، واختلفوا فقط بسبب الاختلاط مع المجموعات الأخرى، ويعزّز هذا التحليل التشابه اللّغويّ، وبعض العادات والتقاليد التي رُصدت منذ الزّمن الغابر والحالي.

هل هذا ما استقر عليه العلماء، والتاريخيون؟

– لا هذا هو ما أرجّحه شخصيّاًّ، لكن هناك آراءً أخرى حيث هناك من يقول: إنّه عندما غزا الفراعنة في نحو ١٥٠٠ ق م شمال السّودان حتّى الشّلال الرّابع، أو الخّامس، ونهبوا خلال تلك الغزوة مملكة كرمة، هاجرت الأسرة المالكة وكثير من السّكّان إلى كردفان وإلى جبال النّوبة. وقتها، اختلطوا مع السُكّان المحليّين، ونتجت عن ذلك هذه العلاقة.

ليس هذا فحسب، بل هناك رأي آخر، يرى أنًّ هذه العلاقة تشكًّلت خلال الفترة المسيحيّة، عندما امتدَّت المملكة إلى كردفان، ومع انتشار الثقافة النّوبيّة هناك. يضاف إلى كلّ ما سبق، مدرسة أخرى تقول إنّه قد حدث جفاف في كلّ من دارفور وكردفان، عند نهايات مملكة مروي، ما تسبّب في هجرة سكّان هذه المناطق باتجاه النّيل.

هؤلاء ضغطوا على مملكة مروي، ثم وصلوا حتى تخوم النّيل، واتجهوا شمالا ليختلطوا مع السُكّان القاطنين على ضفاف النّيل. وهناك آراء أخرى مطروحة. ولا زال الملف مفتوحاً للمزيد من البحث والتقصِّي، وصولاً إلى الحقيقة.