الأسطورة هي ذلك النفق الذي يربطنا بالأسلاف، فهي توثّق حياتهم، بما فيها من أفكار ومعتقدات وسلوك، وتُخبرنا كيف أُنشئت وقُدِّست عادات المجتمع ومؤسساته ومحرماته. وبذلك تُعدُّ إحدى روافد الثقافة الشعبوية التي لا تحتمل الزور والخداع، والتي تُقدم اطروحاتها دون الانحدار نحو أي أيديولوجيا أو موجهات معيّنة، لكنها تحظى بتأييد فئات، ومحاربة فئات أخرى مؤدلجة.
يُعرّف قاموس ماكملان الأسطورة بأنَها: «قصة تقليدية قديمة عن الآلهة والأبطال والسحر. وبأنها سرد رمزي، عادةً ما تكون ذات أصلٍ مُبهم أو مجهول، وتكونُ إلى حدّ ما تقليدية جُزئياً، وتتعلَّق في الظاهر بأحداث فعلية، ومرتبطة بشكلٍ خاص بمعتقد ديني»(*). فالأسطورة ليست وصفاً لشيء ما غير واقعي، ومن الخطأ أن نُعدَّا شيئاً باطلاً يجب محاربته وتهميشه، فالإنسان اليوم وهو أسير التكنولوجيا والأفكار العلمية يحتاج إلى طلاوة الأساطير وروحها، وليس مطلوباً من الأسطورة تدوين التاريخ أو شرح المعتقدات، وليس بالضرورة أن تقوم تفاصيلها على الحقائق الكونية، على الرغم من أنَّها محاولات لفهم الكون، فهي لا تزيد على كونها عرضاً لنمط حياة الأسلاف وتفكيرهم.
مثلما ترك الأسلاف بصماتهم الجينية تسافر عبر ملايين الأجيال، تركوا أيضاً بصماتهم الفكرية في قالب الأساطير، مكنونة في دواخلنا، أو مخزونة في وعينا، أو نستشفها بعقولنا. لاحظ النوبي القديم خنفساء الروث (فودين دابو fudeen dabo) يدحرج كرة يدخل بها الرمل ثم يخرج، فقدّم له تفسيراً لقرص الشمس، وهو يغيب ويخرج من جديد كل يوم، هكذا علّمنا الأسلاف التفاعل مع ظواهر الطبيعة، وإعمال العقل لتفسيرها، بواسطة صور جمالية من الخيال والعاطفة والترميز، ممتزجة بصور حيّة واقعية، مؤسساً لنظام معرفي، يتفاعل معه كل فرد بطريقته الخاصة داخل ذاك النظام.
من بين أنواع الأساطير، أبدع النوبي بصفة خاصة بالأساطير التفسيرية، التي تًعنى بتفسير الظواهر الطبيعية وخصائص الكائنات الحية، وهو في ذلك لم يخرج عن نسق الإنسان الأول، الذي وضع جلّ اهتمامه لاكتشاف ما حوله من ظواهر الطبيعة، وقد بذل جهداً عظيماً وهو يبحث عن حقيقة تلك الأشياء، وسبر أغوار ظواهر، مثل: الجدب والفيضان، وحدوث الزوابع الرعدية، ومواقع النجوم، وبعض صفات الحيوانات والطيور، مثل: إخراج الكلب لسانه، وذرف التمساح للدموع في أثناء التهامه لضحيته، وهو ما أثر في تكوين النوبي، وجعل لديه قوة الملاحظة، والالتصاق أكثر فأكثر مع الطبيعة.
نجد النوبي متناغماً مع الطبيعة، يسارع في تعديل خنفساء مقلوبة على ظهرها، ويجتهد في تخليص القطط والكلاب العالقة، ويمنع ضربها أو إيذاءها، ويداوم على إطعام الطيور، بخاصة في المناسبات والأعياد، نزولاً على رغبة الأسطورة، ويتفاءل إذا سمع صوت القمري، وإذا لعبت هرة برجليها أمامه، وإذا وقعت شرارة على ثوبه، وإذا رفّت جفون عينيه، وتنمّلت أصابع قدميه، فعاش في جو من السماحة والرضا النفسي، ونجده يحافظ على البيئة مدفوعاً بما ورثه عبر ملايين الأجيال، فلا يرمي شعره المقصوص، ولا ظفره، ولا سرة مولوده، إلا في أماكن محدّدة بالقرية، وهو لا يتبوّل في قارعة الطريق، أو فوق أثر بول قديم، وهو غالباً لا يملك تفسيراً لفعله، لكنها تقاليد مغروسة فيه.
هناك أيضاً الأساطير التوثيقية، التي تخبرنا عن أحداث جرت في أزمان سابقة، مثال الأساطير المتعلِّقة بالخلق، وغالباً ما تشير الأساطير التوثيقية إلى القيم الإنسانية، مثل: الكرم والصدق والشهامة والعدل، ونقائضها، كما تتناول الصراع بين الخير والشر، وتتميَّز النوبة بأنَّها لا تكتفِ بتناول الأسطورة فحسب، وإنما تمارسها سلوكاً، وتحوّلها إلى عادات وتقاليد، مثل: ممارسات عاشوراء توثيقاً لما حدث يوم غرق فرعون، ففي ليلة عاشوراء ينزل الرجال والشباب إلى النيل، يسبحون فيها، ويتلطخون بطينها، حتى أن المرضى وكبار السن ممن لا يستطيعون فعل ذلك، يُجلب لهم ماء النيل ليتطهروا به، وذلك إشارة واضحة إلى غرق الرجال والشبان في النيل (البحر)، ويوم عاشوراء تذهب النساء والأطفال إلى شاطيء النيل، وفي أيديهن فوانيس، كأنما يبحثن عن ناجين في ذلك اليوم العصيب، ولا ينزل الرجال لأنَّهم أصلاً قد غرقوا بالأمس، وتحمل النسوة طعاماً مصنوعاً من القمح اسمه (كابِد)، يضعونه فوق سفط صغير مصنوع من سيقان القمح وسعف النخيل، ويعوّمونه فوق سطح النيل وسط الابتهالات والدعوات، والمقصود بتلك العادة هو إيصال الطعام إلى أهاليهم بالنهر العظيم، إن كان بينهم ناجون، فليس من المنطقي أن يغرق الجميع. أما اختيار السفط فهو تيمناً بأم موسى عليه السلام التي وضعت ابنها في سفط، فنجا من تيارات وأسماك ووحوش النهر، ووصل لهدفه سالماً، وسُموا الطعام (كابيد) تيمناً بها (يو كابيد) أم موسى كما ورد اسمها بالتوراة، وليس بعيداً أن تزّين النساء بالحناء نتيجة زواج جماعي حدث لهنّ عقب غرق رجالهن، ووصول قوم آخرين للمنطقة، مصداقاً لقوله تعالى: (وَأَوْرَثْنَٰهَا قَوْماً ءَاخَرِينَ)، وعندما رزقوا بأطفال صادفت ذكرى عاشوراء، فذهبوا إلى النهر يحيون ذكرى من غرقوا، فصارت عادة حتى يومنا هذا، وقد عاشت الأسطورة حيّة آلاف السنين بالممارسة، وليس مجرد نص متواتر.
النوع الثالث من الأساطير تلك التي ارتبطت بالقصص البطولية، وهذه غنيّة بها الأساطير الإغريقية والصينية، وأشهرهم (جلجامش) السومري في العراق، وغالباً ما ارتبطت قصص الأبطال بالمخلصِّين (المنقذين)، مثل موسى عليه السلام وشمشون الجبار وعنترة وأبو زيد الهلالي، وفي الأدب النوبي الحديث نجد ملحمة ايسب وهيلة للهرم مكي علي إدريس، تم فيه تقديم إيسب على أنه المخلِّص خاصة في جزئيه الأول والثاني.
كانت الأسطورة – وما زالت – الإلهام الحي لكل مخرجات الحضارة الإنسانية اليوم، ولم تكتف بإطلاق العنان للإبداع الإنساني، بل وجهته لكيفية التعامل والتفاعل مع الأفكار الدينية والفلسفية والعلمية، وتدخلت حتى في أحلامه ومسارات خياله، فشكّلت بذلك كل إنسان مهما أدار ظهره لها، فهو شاء أم أبى سليل من أرسوا تلك الأساطير.
(*) Macmillan English Dictionary 2002, 924.