ستون عاماً من الشتات رحلة كأنها ضرب من قصص «الأركبي» والأمندالة»
كأنه أمس، وليس تاريخاً مضى عليه ستون عاماً. فلا زالت أحلامنا تحملنا إليها كلما حركنا الشوق للبلد في نومنا ويقظتنا. لم تستطع العقود الستة التي انسلخت منذ رحيلنا عنها أن تزرع في عقلنا الباطن بلداً آخر غيرها. نعم، إن حلفا وحدها هي «البلد» في عرف هذا العقل الذي تنبع منه أحلامنا، وماعداها من الأمكنة التي عشنا فيها ليست سوى مواطن غربة ومنافي لا نمتّ لها ولا تمتّ إلينا. كما ظلَّت صور الحياة في بلداتنا القديمة وذكريات أيامها إلى تاريخ التهجير نابضة في الذاكرة، كأنها نقشت في تلافيفها وشماً باقياً لمدى العمر.
ونحن أطفال في السابعة أو الثامنة، سمعنا الكبار يتحدثون عن غرق بلادنا ورحيلنا إلى أرض بعيدة. حسبناها أول الأمر ضرباً من قصص «الاركبي» و»الأمندالة» والأساطير السحرية لجدّاتنا في حكايات «كومّن كومّن جورو». ولكننا سرعان ما رأينا شواهد تضفي شيئاَ من الصدقية على ما كان يقوله الكبار حين وصل لبلداتنا «افندية» من قبل الحكومة لإحصاء السكان، ولتعداد بيوتنا ونخلنا، وتمتير أرض سواقينا وجروفنا. وقد بدا لنا أنهم في عجلة من أمرهم. يقفون عند كل بيت، وعند كل نخلة، ويرسمون أشكالاً من الدوائر والأسهم على الحيطان وسيقان النخل.
ثم تسارعت خطى الأحداث بحلول عام 1961م. فمن جزيرتنا في عرض البحر كنا نتابع حركة العربات في خط الجنوب بشرق النيل وهي تتعاظم في وتيرتها قادمة من المدينة أو عائدة إليها. فقد كنا نعرف عربات الخط بأسماء سائقيها ونميّزها بأبواقها، ونعرف بالتقريب مواعيد ذهابها وعودتها من ديار السكوت. لكن خط العربات الآن تتوالى على ترابه عربات ذات أشكال وألوان لم نعهدها من قبل. وقالوا لنا إنَّها عربات الحكومة التي تحمل العساكر والأفندية الممكلفين بالإعداد لتهجيرنا من بلداتنا، وقالوا إنَّ بعضها تحمل «الخواجات» الذين قدموا يبحثون عن مقابر أجدادهم في «البرابي» قبل غرق البلاد.
إنّهم يسرقون كنوزنا
أذكر كيف جاء بعض أولئك إلى جزيرتنا، رجال ونساء حمر بلون «الفشفاش»، وذرعوا أرض الجزيرة من أقصاها في «كونج» و»مولين درا» إلى «ساب» في اقصى الشمال، ينقبون في رؤوس الجبال وسفوحها، يخرجون جثث «النصارى»، ويجمعون الجرار الصغيرة، وقطع الفخار، ويضعونها في صناديقهم. وكان بعض الأهالي من «المتعالمين» يقولون لنا إن هؤلاء الخواجات الدهاة يسرقون الكنوز والذهب ويرسلونها خفية إلى بلادهم، ويخدعوننا بجمع الفخار والعاديات التافهة، وتصوير النقوش التي رسمها أجدادهم في «زمن الكفر». وكانت عقولنا الغضة تتلقف تفسيرات أولئك «العارفين» لنضيفها إلى أوهام وشائعات أخرى كثيرة راجت في سنوات ما قبل التهجير.
تهريب الوزير الخطير طلعت فريد
كانت أخبار الأحداث الجسام التي تجري في مدينة حلفا تصلنا في الجنوب مع القادمين. التظاهرات التي اجتاحت المدينة ضد التهجير، وضد حكومة العسكر التي تتبنَّى مشروع إغراق حلفا. وصف القادمون من البندر كيف اضطرَّت سلطات المدينة لتهريب الوزير الخطير طلعت فريد والوفد المرافق له بعربة الإسعاف إلى المطار، عندما حاصر المتظاهرون الغاضبون فندق النيل الذي كانوا يقيمون فيه. وحينما جاءت الأخبار بأنَّ الحكومة اعتقلت أحد أبناء جزيرتنا، وأرسلته مع آخرين إلى سجن الدامر في عاصمة المديرية، توشحت الجزيرة حزناً وغضباً. ورغم ما كان يثيره اسم السجن في تلك الأيام من رعب، إلا أنَّ أهل الجزيرة أحسُّوا وقتها أنهم أصبحوا جزءاَ أصيلاً من الحراك الذي كان ينتظم المنطقة.
الاستعانة بالإدارة الأهلية
بحلول عام 1963م، كان قد أصبح جلياً للأهالي بأن حكومة عبود ماضية في تنفيذ خطتها بتهجير أهالي حلفا إلى منطقة خشم القربة في سهل البطانة. وفيما كان إغراق بلاد النوبيين من الشلال إلى دال جنوباً أمراً قد حسمته اتفاقية مياه النيل الموقعة في نوفمبر 1959م بين حكومتين عسكريتين في عنفوان سطوتهما في مصر والسودان، فإنّ ما كان عليه الخلاف بين مواطني حلفا والحكومة من جهة، وبين المواطنين أنفسهم من جهة أخرى، هو مكان الموطن الجديد. ولكسب قلوب الأهالي وعقولهم لمشروعها، توسلت الحكومة بمختلف الوسائل. وفي هذا السياق، أرسلت الحكومة عمد رجال الإدارة الأهلية بالمنطقة وكبارها في زيارة لخشم القربة للاستعانة بهم في إخضاع الأهالي لمشروعها. كما نصبت معرضاً لمشروع خشم القربة في وسط المدينة يضمُّ مجسماً ضخماً يوضح كل تفاصيل المشروع على نحو جاذب لاطلاع الأهالي وإغرائهم.
إلغاء التصويت بحجة الخلاف بين الأهالي
كلما أحس الأهالي باقتراب الأقدار المجهولة التي يساقون إليها، تصاعد غليان المشاعر المضطربة في مواجهة السلطات تارة، وفي صورة اختلاف عميق في الرأي فيما بينهم تارة أخرى. وفي حدث فريد في ظلِّ حكومة عسكرية، قررت معتمدية التهجير إجراء التصويت بين ممثلي مكوِّنات بلدية حلفا لحسم قضية الموطن الجديد. ولكن الحكومة التي كانت قد حددت مشروعها سلفا، ألغت نتائج التصويت وأصدرت قراراً حاسماً باختيار منطقة خشم القربة بحجة عجز الأهالي عن الاتفاق على رأي. وهنا برز خلاف أعمق بين المؤيدين للهجرة إلى خشم القربة (عيني) والرافضين لها (نقدي). وكان خلافاً مريراً طال الإخوة الأشقاء وأبناء العمومة، وهو ما شكّل في نهاية الأمر جغرافيا جديدة لواقع الشتات الذي طال أبناء حلفا.
(مورفين) يدغدغ مشاعر الأهالي
لم تكف لجان التهجير والتوطين لحظة عن زيارة البلدات والقرى بمختلف تخصُّصاتها، فقد كان أمامهم موعد نهائي لإفراغ المنطقة من السكان بتاريخ لا يتجاوز يوليو 1964م الذي هو موعد بدء تخزين المياه خلف السد العالي. في خضم التطوُّرات المقلقة التي كانت تتفاقم مع مضي الأيام، جاءت التعويضات كجرعة مهدئة للخواطر المهتاجة. ورغم الفرحة التي لامست قلوب الأهالي باستلام قيمة تعويضاتهم، إلا أنَّ معظم الأهالي البسطاء كانوا قد أنفقوا كل أموالهم قبل التهجير. كما لو كانت جرعة مورفين دغدغت مشاعر الأهالي لبعض الوقت ثم تلاشت كأن لم تكن.
رغم الحزن.. مدينة تعج بالحياة
عندما ذهبنا للمدرسة الوسطى في أول 1964م، وكنا آخر دفعة تجلس لامتحان «اللجنة» في وادي حلفا، كانت المدينة تتهيأ لقدرها المحتوم الذي لم يَعُد مجهولاً. وبالرغم من مسحة القلق التي كانت تعلو وجوه الناس، إلا أنَّ مدينة حلفا، زهرة مدائن البلاد، لم يتعطل شيء من حركتها الدائبة. البواخر تذهب وتجيء حاملة الركاب والبضائع من أسوان وإليها، والقطارات تتصاعد أدخنتها في سماء المدينة، والعربات والبصات التي تحمل الركاب والبضائع إلى الجنوب لحد السكوت والمحس وإلى الشمال في اشكيت ودبيرة وسرة تتواصل رحلاتها، والمقاهي والمطاعم تعج بروادها، وعربات الكارو تنقل صفائح الزيت وصناديق الشاي وجوالات السكر، والملاعب تكتظ بالمتفرجين لمنافسات الفرق الرياضية، والمآذن تصدح بالأذان والمصلون يهرعون لمساجد المدينة، والمعلنون «الجوالون» على عربات الكارو المزينة بلقطات الأفلام يروجون لحفلات المساء في السينما.
طلائع المُهجرين
من على سور داخلية الكات في حلفا الأميرية شاهدنا قطارات الهجرة الأولى التي حملت أهالي فرص غرب وسرة غرب إلى دار هجرتهم. لوّحنا بأيدينا للقطارات الموشحة بجريد النخل وبأحزان الراحلين. ثم تتابعت قطارات التهجير حتى أفرغت قرى فرص شرق وسرة شرق ودبيرة هاجر والحصا وإشكيت وصحابة ونجوع أرقين بغرب النيل.
عسكر ومدنيون… لا تغيير
خلال عطلة الصيف الطويلة للعام 1964م، توالت الأحداث الصاخبة. كانت التظاهرات المعادية للحكومة تجتاح عاصمة البلاد. وفي مدية حلفا، اجتاحت المياه سوق المدينة، وألحقت خسائر جسيمة بأصحاب المحلات. جرى تهجير قرى دغيم وعمكة وجمي ومرشد، بعضها أفرغت من سكانها، فيما تبقى «النقديون» في بعضها. وسقطت حكومة عبود بأسرع وأيسر مما كان متوقعاً، كما لو أصابتها دعوات الأهالي المكلومين. عمَّت الفرحة بين الأهالي بزوال الحكومة التي قضت على بلدهم بالإغراق والتهجير. ولكن بدا جلياَ بأنَّ الحكومة المدنية الجديدة لن يكون في إمكانها تغيير شيئ يذكر فيما صنعته حكومة العسكر، فقط تأخرت المرحلة الثالثة من التهجير لسنة كاملة، وشملت قرى صرص وأكمة/عكاشة.
ميتة ثانية وقلوب مثقلة
مكثنا في البلد لسنة بعد تهجير القرى التي لشمالنا من فرص حتى مرشد. كنا خلالها مثل مدانين بانتظار تنفيذ الحكم. ما الذي يمكن عمله في بلد لن يعمر غير عام واحد أو أقل! كما كان غياب جيراننا من جهة الشمال يملأ جوانحنا بالوحشة والخوف من الغد المجهول. فعما قريب سوف تستحيل ديارنا أيضاً إلى غياب موحش.
تركنا أهلنا يحزمون أمتعتهم وعدنا إلى مدارسنا التي كانت قد انتقلت إلى حلفا الجديدة مع تهجير المدينة. لكننا لم نكن في معيتهم عندما ذهبوا إلى جبانة «أبهوان بود» يودعون أقاربهم الهاجعين في بطحائها بالدمع الثخين، كما لو أنهم ماتوا ميتة ثانية في أبديتهم. ولم نر آباءنا وأعماما وهم يحملون أثقال أمتعتهم إلى القوارب بقلوب مثقلة بالحزن والغصة تخنق حلوقهم، ولم نشهد نشيج أمهاتنا وعماتنا وخالاتنا وهن يندبن الديار والنخل وتراب الأرض. لكننا كنا في استقبالهم بالطرف الآخر من رحلتهم عند محطة السكة الحديد في حلفا الجديدة.
كان التاريخ نفسه حاضراً عند ارتفاع الضحى من اليوم الخامس والعشرين من شهر نوفمبر 1965م، ممسكاً بسجله العتيق يدوّن لحظة خروج الرجال والنساء والأطفال من جوف عربات الكومر إلى أرض موطنهم الجديد، في موقف يحاكي يوم الحشر، شيّع فيه شهوده عصراً أفل نجمه، ودشنوا عهداً جديداً سمعوا صرخة ميلاده لحظة أن وطأت أقدامهم أرض القرية 19
* عبدالمنعم محمد علي
تخرج في كلية الاقتصاد، قسم العلوم السياسية، جامعة الخرطوم، 1976م.
إعلامي بوزارة الثقافة والإعلام في السودان، ومترجم بوزارة الدفاع، ثم بشركة TRW US، ووزارة الداخلية بالسعودية.
مترجم، سكرتارية مجلس إدارة بنك قطر الوطني، الدوحة..