اللغة من المقوِّمات الجوهرية لهوية الأفراد والجماعات والشعوب. هذه حقيقة تاريخية عبر العصور، باعتراف كل الجماعات والشعوب في العالم.

ما من صراع بشري إلا ويبطن في جوفه صراعاً لغويَّاً، حتى قيل إنَّه يمكن صياغة تاريخ البشرية على أساس الصراعات اللغوية.

اللغة هي رابطة العقد للخريطة المعرفية، والركيزة الأساسية لفلسفة العالم.

يمكن إفقار الشعوب واستعبادها ما أن يسلب اللسان الذي تركه له الأجداد، فعندئذ تضيع الشعوب للأبد. لذلك لا يناظر جبروت اللغة إلا حنوها، فهي شريكة ثدي الأم في إيضاح وعي الصغير، وهي راعية المتعلم وملهمة المبدع وهادية المتلقي. وحتى في السياسة والاقتصاد فهي أشد الأسلحة ضراوة.

إيفاءً بالمطلوب، بدأت محاولات كتابة النوبية بما كتبه الأستاذ محمد متولي بدر ر رحمه الله- بالحرف العربي واللاتيني.

الدارسين بالنادي السوداني –العين

نشطت محاولات الكتابة بالنوبية في السودان بأقلام الشعراء والباحثين، أمثال: محمد مختار عبدون ومكي علي ادريس ومحمد توفيق أحمد شريف وعبداللطيف سيد أحمد وإبراهيم عبده وشكسبير النوبة جلال عمر وحامد خبير.

كانت محاولات الكتابة بالنوبية في مصر متقدِّمة عن السودان، كنت بدأت العمل مع جمعية نوب للتراث النوبي، وجمعيات توماس وعافية، وكنداكة في القاهرة وفرع مركز الدراسات النوبية والتوثيق في أبوسمبل، وقمنا بنشر كتب تعليمية، وعقد دورات لمجموعة منتقاة من الشعراء والكتَّاب، ومعلمات المدارس الابتدائية بقيادة الراحل محمد سليمان جدوكاب.

برز في هذه الفترة دور الشعراء في مصر والسودان في الحفاظ علي بقاء اللغة النوبية بصورة أكبر.

وبعد ذلك كان العمل مع جمعية إبريم (فاي) بإشراف الدكتور عبدالقادر شلبي من موقع نباتا، ثم كتاب دكتور مختار خليل كبارة الذي أصبح دليلنا في الدورة التأسيسية لمركز الدراسات النوبية و التوثيق بالقاهرة، وقد أفضى ذلك إلى إصدار كتاب (نوبيق كُل – نوبق كُور).

وهنا نتقدم بآيات الشكر للدكتور التجاني مرسي لمدنا بمخطوطة اللغة النوبية القديمة من لندن OLD NUBIAN TEXES FROM QASR ABRIM ، وكذلك الأستاذ محيي الدين صالح – رحمه الله – من نوبة شمال الوادي لتلبيته دعوتنا لزيارة السودان، وتقديم خبراته في كتابة النوبية بالاشتراك في فعاليات نوبية. ولا يخلو اسم الدكتور محمد جلال هاشم في أي حديث عن اللغة النوبية، وتجاربه في تعليم الأطفال في جامعة الخرطوم، حتى لغير الناطقين بها.

وكذلك له دور بارز في ورشة العمل التي عقدناها بكلية الآداب في جامعة الخرطوم تمهيداً لدراسة الدبلوم العالي، إلى جانب وقفته في إخراج اصدارتي «اكتب واقرأ اللغة النوبية «، نتمنى له الشفاء العاجل ليواصل إنجازاته، ولا نأخذ بما يقال إنَّ السياسة اختطفته.

ويستحق الأستاذ الهادي حسن هاشم منا الشكر على مساهماته المقدَّرة.

عندما رحل مركز الدراسات للسودان، لم يستمر بسبب الظروف المادية غير فترة قصيرة، أقمت خلالها دورتين لتدريس اللغة النوبية.

توجهت للجمعيات والأندية والشخصيات المهتمَّة. فتحت فصولاً في الجمعية النوبية بالخرطوم شرق، ثم جرى تنظيم أكثر من عشر دورات تحت إشراف الاستاذ محمد شريف، رئيس المنظمة النوبية «أوجرتي» بالسوق العربي، وكانت الاولوية للطلاب في الجامعات والمعاهد العليا، وخرَّج مركز نادي بوهين في السجانة ثلاث دفعات. وبدعوة من الأستاذ حسنين عبدالسيد -رحمه الله- افتُتح مركز تدريس بمدارسه باللاماب والكلاكلة.

أكثر عمل كان منظماً وباعتمادات مالية لتدريس اللغة كان برعاية جمعية دنقلا للثقافة والتراث، التي عملت بروتوكولاً مع جامعة افريقيا العالمية – مركز الراحل البروفيسور يوسف الخليفة – وكنتُ بأمانة الشؤون العلمية، ومع أنَّ الدراسة كانت بالحرف العربي المنمط، إلا اننا نجحنا في تمليك الحرف النوبي للدارسين والدارسات.

كان‭ ‬الساعد‭ ‬الأول‭ ‬في‭ ‬تدريس‭ ‬النوبية‭ ‬كتابي‭ ‬‮«‬اكتب‭ ‬واقرأ‭ ‬اللغة‭ ‬النوبية‮»‬،‭ ‬وقد‭ ‬وُزِع‭ ‬في‭ ‬الطبعة‭ ‬الاولي‭ (‬1000‭) ‬نسخة‭ ‬علي‭ ‬الجامعات‭ ‬والروابط‭ ‬والأندية‭ ‬النوبية‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬ومصر،‭ ‬وأوروبا‭ ‬وأمريكا‭. ‬وكان‭ ‬النصيب‭ ‬الأكبر‭ ‬في‭ ‬دول‭ ‬الخليج

وخلال الفترة نفسها تواصلنا مع جامعة دنقلا ورئيس مجلس إدارتها الأستاذ عزالدين السيد، رحمه الله، الذي بدأ في بناء كلية اللغات والسياحة ليتم القبول فيها لاحقاً ونحن جاهزون بأساتذة حملة الماجستير والدكتوراه، وهم:

أولاً: حملة الدكتوراه، هما اثنان: الدكتور داود محمد داود، وكان له شرف نيل أول دكتوراه بعنوان: «النوبية في العامية السودانية «من جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا، والدكتور عبدالرحمن علي خيري، ونال شرف ثاني دكتوراه تحت عنوان «نظم بناء الفعل في اللغة النوبية وكتابتها».

ثانياً: حملة الماجستير، وهم: محمد طه عمر (من نوبة شمال الوادي – قرية إبريم)، ومحمد عبدالرحيم محمد خير، ومحمد عبدالله محمد بشير، وعبير عبدالله عثمان منور، وآسيا عوض إسماعيل، ومختار صالح عبدالمطلب بيرم، ومرتضي علي شريف، وماريا عبدالرحيم محمد خير، وسعدالدين حسنين، ومحمد محمود عبدالكريم، وكوثر محجوب مرسي، ومحمد عبدالكريم أقولا، وسميرة عكاشه ابراقا، وحنان هارون، وعواطف هارون، وسمير محمد خير، واخلاص جلال عمر، وعلي محمد علي خيري، وممدوح ساتي، وإسلام عبدالرحيم محمد فرح

من‭ ‬ورشة‭ ‬عمل‭ ‬الدبلوم‭ ‬العالي‭ ‬ويظهر‭ ‬محمد‭ ‬جلال‭ ‬هاشم‭ ‬ومحمد‭ ‬ولياب‭ ‬وعبدالعال‭ ‬همت

جرت دراسة الماجستير في ثلاث دفعات بعناوين قوية لمقارنات المحسية والدنقلاوية والعامية السودانية وأثر العربية في النوبية.

ومن الإنجازات إعادة طباعة بعض الكتب النوبية، وانشاء المكتبة النوبية بإشراف جمعية دنقلا للثقافة والتراث بالخرطوم، والاشتراك في كل دورات معرض الخرطوم الدولي للكتاب، وترجمة كتب أهمها كتاب «النوبيون العظماء» للكاتبة دروسيلا دونقي، وترجمة غانم سليمان غانم.

منصَّات‭ ‬تدريس‭ ‬اللغة‭ ‬النوبية‭ ‬عبر‭ ‬الإنترنت

منصَّات تدريس اللغة النوبية عبر الإنترنت

عند اجتياح كوفيد19، توقفت مراكز التدريس والتعليم المباشر، وأصبح الاعتماد كلياً على استثمار الانترنت ومواقع التواصل للتعليم والكتابة؛ إذ أن أعداداً كبيرة كانوا قد امتلكوا الحرف النوبي، وأُدخلت النوبية في لوحة مفاتيح الأجهزة المحمولة، وكل هذا العمل كان بين الخرطوم والقاهرة على قدمٍ وساق.

وقمنا بإنشاء صفحات على الفيسبوك، وهي:

  • اللغة النوبية – عبدالعال همت.
  • مشروع تمليك الحرف النوبي
  • نوبة أشري.
  • وصفحة على قناة اليوتيوب بعنوان: «اقرأ واكتب بالنوبية».

وكل هذه المنصَّات تُعني ببث فيديوهات عن تدريس اللغة النوبية، بطريقة تفاعلية تضفي الجاذبية على العملية التعليمية.

وهنا لابدَّ من شكر وتقدير وإشادة بالأستاذين شاهر محجوب، وعبدالرحيم محمد قاسم، من أبناء عبري وتبج، لأنَّهما بخبراتهما ساعدا على إنجاح مشروع تمليك الحرف النوبي، ونشير بانَّ هذه المنصَّات تعمل بصورة فعالة، وأتت أُكلها في أوساط كل النوبة داخل السودان، وخارجه.

قصاصة‭ ‬من‭ ‬صحيفة‭ ‬مصرية

دور‭ ‬كتاب‭ ‬‮ «اكتب‭ ‬واقرأ‭ ‬النوبية‮»‬

كان الساعد الأول في كل هذه الإنجازات كتابي «اكتب واقرأ اللغة النوبية»، وقد وُزِع في الطبعة الاولي (1000) نسخة على الجامعات والروابط والأندية النوبية في السودان ومصر، وأوروبا وأمريكا. وكان النصيب الأكبر للأندية والروابط النوبية في دول الخليج، حيث أشرفت حضوراً على التوزيع، وفُتحت مراكز للتدريس في دولة الإمارات العربية المتحدة، وذلك في النادي السوداني بمدينة العين، وبيت السودان بأبوظبي، حيث طُبع من الكتاب (2000) نسخة.

سجلت زيارتين للمملكة العربية السعودية لكثافة عدد النوبيين بها، وذلك في غضون أربع سنوات، وبدأت في التدريس بالجمعيات والروابط – حلفا، وسكوت، والمحس، ودنقلا، وجمعيات نوبة شمال الوادي في الرياض والدمام وأبها وخميس مشيط، مع توصيل كتاب «اكتب واقرأ اللغة النوبية» إلى كل هذه الجهات.

وهنا لابد من الإشادة بالمهندس عبدالعظيم جميل لكل ما قدمه من تسهيل وإشراف عملي في جمعيات منطقة دنقلا، وتنظيم احتفال تدشين الكتاب بمدينة الرياض.

ما مضى شيء يسير من تجارب تدريس اللغة النوبية بعد فعاليات الدورة التأسيسية التي عُقدت بالقاهرة بإشراف مركز الدراسات النوبية والتوثيق، وكانت كأول محاولة جماعية من النوبيين من مختلف أرجاء المنطقة النوبية في السودان ومصر.

تضاعف العمل بعد تلك الدورة، وصدور أول كتاب تعليمي المتمثَّل في «اكتب واقرأ اللغة النوبية».

في تقييمنا وحسب الإمكانات والظروف التي مرَّت بها البلاد في السودان ومصر، فما أُنجز عمل كبير ومُقدر، وزاد الرغبة بضرورة تعلم اللغة، وأوجد تعطشاً لدى المهتمين من الشعراء والفنانين لكتابة الشعر الغنائي بالحرف النوبي.

الإعلان‭ ‬عن‭ ‬مناقشة‭ ‬رسالة‭ ‬د‭. ‬عبدالرحمن‭ ‬علي‭ ‬خيري

تفعيل‭ ‬تدريس‭ ‬اللغة

ساعون بجد إلى تفعيل مركز الدراسات النوبية والتوثيق، ومطالبة التعليم العالي بإقرار تدريس اللغة النوبية في كلية عزالدين السيد للسياحة واللغات بكرمة النُزل، وكنا قد بدأنا نقاشاً لإقامة أكاديمية بمساعدة مركز البروفيسور يوسف الخليفة لكتابة اللغات في جامعة أفريقيا العالمية.

ولقد أصبحت أصواتنا ترتفع مطالبين الموافقة على إدراج اللغة النوبية في المناهج التعليمية في الولاية الشمالية. وأصبحت برامج قناة الشمالية لا تخلو من لقاءات وبرامج نوبية، والقدح المعلى للأستاذ الشاعر الفاتح شرف الدين، مع ارتفاع نسبة المشاهدة، وأعداد الواعدين لتقديم برامج وموضوعات تخصُّ النوبة واللغة النوبية.

إذا شاء الله أن يستقر السودان، هناك أفكار وخُطط للنزول للريف النوبي واستغلال الاندية في القرى لتنظيم دورات لكل الاعمار حتى الشباب والأطفال في تدريس اللغة بفيديوهات جاذبة وبرامج خاصة، وستكون «نوبيانا» – بإذن الله – رأس الرمح في تدريس اللغة النوبية.