لمنهجٍ العلميّ السديد أساس تعليم اللغة النوبية
يمثّل تطوير اللغات الوطنيّة السّودانيّة تحدّياً حقيقيّاً أمام مشروع بناء السّودان الجديد. فاللغات ليست مجرّد أصوات للتّواصل، بل هي مواعين وقوالب للفكر؛ فتعلّم لغة بعينها وإجادتها يتطلّب بدءاً أن نتعلّم كيف نفكّر عبر تلك اللغة. وهذا يعكس خطورة اللغة. فباستثناء اليابان، تعرّضت جميع دول آسيا مثل الصّين، والهند، وباكستان، وإندونيسيا، وماليزيا، وكوريا، وفيتنام، وإيران، وجميع الدّول العربيّة .. إلخ، لتجربة الاستعمار. ولكن مع ذلك تمكّن أغلب هذه الدّول من النّهوض، بينما لا تزال أفريقيا في حالها، تعاني من ويلات الحروب وفشل الحكومات وظاهرة الفساد السّياسي والحكم غير الرّشيد. كما لم تتمكّن من المحافظة على الأوضاع الجيّدة في غالب الأحوال التي تركتها الأنظمة الاستعماريّة، من بنيات تحتيّة إلخ. فلماذا هذا التّدهور والتّراجع؟
هناك كثير من النّظريّات الاقتصاديّة والسّياسيّة والاجتماعيّة التي تُطرح لتفسير هذه الظّاهرة المأساويّة. لكن من بين أحدث النّظريّات وأقواها أنَّ تلك الدّول قد نهضت عبر لغاتها، بينما أفريقيا قرّرت أن تنهض بلغات المستعمرين أو المستوطنين: المستعمرون في حالات الاستعمار الأوربّي، والمستوطنون في حالات اللغات، مثل: الأفريكانرAfricaaner واللغة العربيّة، مثلما في السّودان. ففي السّودان أكثر من 100 لغة لا تعترف الدّولة بأيٍّ منها سوى اللغة العربيّة. وقد دفعت الدّولة منذ الاستقلال بعجلة الاستعراب حتّى لو أدّى ذلك إلى تدهور التّعليم، الذي بالفعل تدهور إلى درجة أن أصبح لنا خريجون لا يستطيعون اجتراح مقال باللغة العربيّة دون أن يذبحوا اللغة العربيّة بموسى الرّكاكة.
وليس من المستغرب أنًّ اللغة العربيّة نفسها كانت من أولى ضحايا موجة التّعريب والاستعراب، إذ أصبح الاستماع إلى أغلب مذيعي ومذيعات الإذاعة والتّلفزيون الجدد امتحاناً عسيراً في الصّبر على المكاره وتحمّل الأذى. ولهذا نرى أنّ فتح باب كتابة اللغات الوطنيّة السّودانيّة لهو واجب في هذه المرحلة بالذّات، وهي المرحلة التي يتشوّف السّودانيّون لغدٍ يحمل لهم الأمل في ظلّ دولة ديموقراطيّة يسود فيها الحكم الرّشيد وفق قيم الحرّيّة والعدل والسّلام.
وتأتي اللغة النّوبيّة بوصفها واحدة من الظّواهر الفريدة في مجال كتابة اللغات. فهذه اللغة تعدُّ مع اللغة المرويّة أوّل لغتين أفريقيتين قد كُتبتا. بخصوص اللغة المرويّة، نشير إلى أنّ اختراع الكتابة الأبجديّة، والانتقال من كتابة التّصاوير Hieroglyphics إلى الكتابة الأبجديّة، قد جرى في زمن الأسرة الخامسة والعشرين، أي زمن الحكم الكوشي لمصر في القرن الثّامن قبل الميلاد. وعلى هذا يمكننا إعادة قراءة تطوُّر الكتابة الأبجديّة، واضعين في الحسبان أنًّ تلك النّقلة التي حوّلت مجرى التّاريخ ما كان يمكن أن تحدث بمعزل عن تأثير الحكّام كما هو العهد بكلّ أشكال الكتابة منذ فجر التّاريخ وإلى عصر النّهضة. وقد ورثت اللغة النّوبيّة هذه التّجربة الكتابيّة القديمة، وذلك عندما اختطّت لها أبجديّة هي مزيج من الأبجديّات الإغريقيّة، القبطيّة والمرويّة. في هذا تقدّم لنا اللغة النّوبيّة حالة من حالات الاستمراريّة التّاريخيّة النّادرة، والتي تعود لآلاف السّنين. ولكن هذه ليست إلاّ جانباً من المشكلة. فمع كلّ هذا التّاريخ العتيق، يمكن النّظر إلى تجربة كتابة اللغات النّوبيّة الحديثة بوصفها بداية تجربة، وذلك بحسبان أنَّ النّوبيّين قد انقطعت تجربتهم الكتابيّة منذ أمدٍ ليس بالقصير.
الدّولة السّودانيّة في خانة مهدّدات اللغات الوطنيّة
ومع هذا، لم يفارق النّوبيّون إحساسُهم العميق بهذه الاستمراريّة التّاريخيّة. فقد ظلَّوا يحلمون باليوم الذي تصبح فيه لغتهم مقروءة ومكتوبة، وهو حلم جدّ مشروع. ولا أعرف لغةً سودانيّة نهض لها أبناؤها يرومون المحافظة عليها لترقيتها وتطويرها كما فعل النّوبيّون. فالنّوبيّون مسكونون بالتّاريخ، ولا غرو إذ يجاورونه ويساكنونه في قراهم ونجوعهم في استمراريّة تاريخيّة قلّما نشاهدها. ولكنّهم مع كلّ هذه الجهود المبذولة والنّوايا الصّادقة، لا أراهم قد أفلحوا في ذلك فلاحاً يُذكر. فتطوير اللغات الوطنيّة ليست نشاطاً يبذل لتزجية أوقات الفراغ، بل هو من صميم عمل الدّولة. ولا يحتاج المرءُ منّا ليُشير إلى أنَّ الدّولة السّودانيّة تقف في خانة مهدّدات اللغات الوطنيّة، وذلك بانحيازها للغةٍ وثقافةٍ واحدة وذلك في حُمَيّا غلوائها الإسلاموعروبيّة. ثمّ هناك سبب آخر يتعلَّق بالمتكلّمين بهذه اللغات، ألا وهو مقاربة أمر اللغات من زاوية رومانسيّة، غير علميّة، فيها تنتفخ الأوداجُ حماسةً والتهاباً، بينما يخلو العقل من أيّ رؤية ناهجة.
معرفة تحليلية دون منهجٍ علميّ سديد
وهذا ما أجد فيه أغلب متعلّمة النّوبيّين ممّن نهضوا لتطوير لغاتهم. فأغلبُ هؤلاء ممّن يتحدّثون اللغة بطلاقة بوصفها اللغة الأم بالنّسبة إليهم. ولكن لا غنى للذين يبغون تطوير اللغات من اكتساب معرفة تحليليّة بلغاتهم، وذلك بجانب المعرفة الأدائيّة performance knowledge باللغة، وهي مهارة التّحدّث باللغة ليس بطلاقة فحسب بل بإحاطة تامّة بالأساليب التعبيرية perlocutionary styles . فدون أن تسند تلك المعرفة الأدائيّة بأيّ قدرة على تحليل التّراكيب من نحو وصرف وخلافه، لن يكون مفيداً بدرجة كبيرة. ولدينا كثيرون من هؤلاء المثقّفين النّوبيّين، لا يملك المرء غير أن يأمل في أن يطوّروا هذه المعرفة الأدائيّة لتصبح تحليليّة أيضاً competence knowledge، وذلك ليرفدوا بدورهم الحقِّ في تطوير اللغة التي يحبّون.
نعم، لدينا عدد معتبر منهم ليس على معرفة أدائية عالية فحسب، بل جمعوا مع ذلك معرفة تحليلية عميقة باللغة النّوبية، لكن دون أن يقوم ذلك على منهجٍ علميّ سديد. فمثلاً إذا سألتهم عن تركيب بعينه أفتوك بما يشفي الغليل وأكثر، لكن دون أن يجترحوا ذلك بأنفسهم. والمعرفة التّحليلية تتعلًّق بالقدرة على تحليل التّراكيب النّحويّة والصرفيّة والصوتية. فبينما يمكن وصف الأولى، المعرفة الأدائيّة، performance knowledge بأنّها معرفة لغوية language knowledge، يمكن وصف الثّانية، المعرفة التّحليليّة، بأنّها معرفة لسانيّة linguistic competence.
هذه خواطر عنّت لي في مجال كتابة اللغات السّودانيّة، بعضها مأخوذ من إسهامات قدّمّتُها في الأسافير النّوبيّة، وبعضها قدّمته في كثير من المحاضرات وورش العمل.
تدريس اللغة النّوبيّة: أسئلة لا بدّ من مواجهتها
جاء بموقع عبري تبج (2015م) خبر عن البدء في تدريس اللغة النوبية في روضة بالكلاكلة صنقعت. وقد أثار الخبر دهشتي بقدر ما أثار إعجابي. أثار إعجابي؛ لأنّه ببساطة ما من نوبي فيما أعلم يسمع بأنَّ اللغة النوبية قد أصبحت تُدرّس في أيّ مساق أو مرحلة إلاّ ويهتزّ فرحاً وانتشاءً لهذا الخبر. ولهذا أفرحني خبر أن تكون هناك محاولة جادّة لتدريس اللغة النوبية. إذن، فألف مبروك وإلى الأمام. ثمّ أثار الخبر دهشتي لما فيه من جسارة. فالتّدريس كيفما كان شأن فنّي يقتضي درجة من الإعداد التّقني، فضلاً عن الاستعداد. وليس أصعب من التّعليم في مرحلة ما قبل المدرسة، أي مرحلة الرّوضة.
أسئلة تُطرح
على هذا قفز في ذهني كثير من الأسئلة التي أمّلتُ أن أجد الإجابة عنها في تلافيف التعليقات والمداخلات المتعاقبة التي أشادت بالتّجربة. ولكن خاب فألي إذ لم أظفر منها بشيء. إذ يبدو كأنّها لم تخطر على بال أحدٍ على أهمّيتها. فما هي يا ترى هذه الأسئلة؟ أدناه سوف أحاول تلخيص هذه الأسئلة في نقطتين فقط.:
النّقطة الأوّلى: تدور حول أسئلة تتعلّق بالمستوى level من ناحية المحتوى التعليمي educational content الذي تّدرّس به اللغة النوبية لأطفال روضة؟ وهذا أسُّ العملية التعليمية في اختطاط المناهج. هل تُدرّس لهم اللغة في مستوى أدبها أم قواعدها أم مجرّد أغانٍ وأناشيد؟ بالطّبع المرجّح هو الاحتمال الأخير. ولكن حتّى هذا الاحتمال ينطوي على كثير من الإشكالات التربويّة، أوّلُها يبدأ بالمساءلة حول مستوى الأطفال في اللغة النوبية: هل يفهمونها فقط أم يتكلّمونها أم أنّهم لا هذا ولا ذاك؟ عدم التّحسب لهذه المسألة قد يكون له مردود سلبي ينتهي بهؤلاء الأطفال إلى كراهيّة هذه اللغة والنفور منها.
النّقطة الثّانية: وتدور حول عدّة أسئلة حول الغرض والمقصد التربوي من هذه العمليّة. هل القصد منها تعليم اللغة النّوبيّة؟ إذن وفق أي إستراتيجيّة تعليميّة يتمّ هذا؟ فتعليم لغة بعينها لا ينشأ في فراغ؛ بل لا بدّ من إستراتيجيّة محكمة السّبك والتخطيط تبدأ من نقطة البداية وتنتهي إلى نقطة بعينها. والمسافة بين هاتين النقطتين تتمثّل في عمليّة تحديد الكم المعرفي أو ما يُتعارف عليه اصطلاحاً باسم piecemealing حيث يبدأ صبّ كمّيّة معرفية بمستوى معيّن في شكل دروس تبدأ من نقطة محدّدة لتنتهي بنقطة أيضاً محدّدة، بعدها ينتقل الدّارس إلى مرحلة أخرى (درس آخر بمستوى معرفي معيّن)، بدوره يبدأ من نقطة محدّدة وينتهي بنقطة معيّنة؛ ثمّ إلى مرحلة أخرى فالتي تليها ثمّ إلى التي تلي … إلى آخر مستوى تمّ التخطيط له وفق الإستراتيجيّة الأساسيّة. إذ بلا إستراتيجية واضحة سيتعذّر إجراء تقويم مردودي feedback evaluation الأمر الذي قد يُحيل المسألة كلّها إلى لا شيء في خاتمة المطاف.
تجربة شخصية
فالتخطيط المناهجي في التعليم عموماً عمليّة process مركّبة وبدرجة عالية من التعقيد، وليس مجرّد آلية mechanism تقوم على سبّورة ومدرّس ثمّ تلاميذ ينكبّون على كتاب يتدارسونه. نعم كان هناك كثير من الكورسات في تدريس اللغة النوبية، وكاتب هذه السّطور كان أوّل من درّس اللغة النوبية عام 1996م، وذلك قبل صدور كتاب كبّارة. لكن كلّ ذلك لم يكن يستهدف مرحلة تعليمية وفق السُّلّم التعليمي الرّسمي، الذي يبدأ التخطيط له فعلاً من مرحلة ما قبل المدرسة pre-school إلى مرحلة الجامعة فما بعدها في عملية واحدة. فما كان من كورسات تُسمّى إلحاقيّ access course، وهو ما يدخل في برامج تعليم الكبار وليس الأطفال. وحتّى تلك الكورسات – وأنا هنا أتكلّم عن الكورسات التي درسته – كانت تجريبية، وتقوم مقرّراتُها في محتواها المعرفي على كتاب وضعه تربوي من الطّراز الأوّل، ألا وهو الأستاذ محمد متولّي بدر، عليه رحمة الله. ومع ذلك، قمتُ من جانبي باستبعاد أقسام كبيرة ومهمَّة من الكتاب، وذلك في مسعى منهجي صارم لتحديد وترسيم حدود المحتوى المعرفي ليكون متجانساً بقصره على جنس بعينه من المعرفة اللغوية هو المطالعة Reader مستبعداً بذلك أقسامه التي تتناول النّحو من قواعد، وصرف، وخلافه.
وهذا لا يعني بالمرّة أن تدريس اللغة النوبية للأطفال ليس ممكناً، بل كلُّ ما نقوله إنّه ينبغي أن يكون ضمن إستراتيجيّة تعليمية للغة. فهل تواضع صاغةُ الكورس بروضة الكلاكلة على شيءٍ من هذا القبيل أم أنّ المسألة كلّها لم تعدُ كونها تجريبية؟ فأسُّ المحاذير التربويّة يكمن في القاعدة الذّهبيّة التي تقول إن التجريب في الأطفال يكون لكشف أوجه الخلل والقصور، أو التوفيق في محتوى مقرّر بعينه مقابل مقرّر آخر، كلاهما يقعان ضمن إستراتيجية مجازة في الأصل. لكن أن يجري تجريب المقرّرات على الأطفال ضربةَ لازبٍ، فهذا يمكن أن يؤدّي إلى نتائج ليست فقط غير مرغوبة، بل ربّما مناقضة للهدف الذي من أجله أُقيم الكورس.