لمنهجٍ‭ ‬العلميّ‭ ‬السديد‭ ‬أساس‭ ‬تعليم‭ ‬اللغة‭ ‬النوبية

يمثّل‭ ‬تطوير‭ ‬اللغات‭ ‬الوطنيّة‭ ‬السّودانيّة‭ ‬تحدّياً‭ ‬حقيقيّاً‭ ‬أمام‭ ‬مشروع‭ ‬بناء‭ ‬السّودان‭ ‬الجديد‭. ‬فاللغات‭ ‬ليست‭ ‬مجرّد‭ ‬أصوات‭ ‬للتّواصل،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬مواعين‭ ‬وقوالب‭ ‬للفكر؛‭ ‬فتعلّم‭ ‬لغة‭ ‬بعينها‭ ‬وإجادتها‭ ‬يتطلّب‭ ‬بدءاً‭ ‬أن‭ ‬نتعلّم‭ ‬كيف‭ ‬نفكّر‭ ‬عبر‭ ‬تلك‭ ‬اللغة‭. ‬وهذا‭ ‬يعكس‭ ‬خطورة‭ ‬اللغة‭. ‬فباستثناء‭ ‬اليابان،‭ ‬تعرّضت‭ ‬جميع‭ ‬دول‭ ‬آسيا‭ ‬مثل‭ ‬الصّين،‭ ‬والهند،‭ ‬وباكستان،‭ ‬وإندونيسيا،‭ ‬وماليزيا،‭ ‬وكوريا،‭ ‬وفيتنام،‭ ‬وإيران،‭ ‬وجميع‭ ‬الدّول‭ ‬العربيّة‭ .. ‬إلخ،‭ ‬لتجربة‭ ‬الاستعمار‭. ‬ولكن‭ ‬مع‭ ‬ذلك‭ ‬تمكّن‭ ‬أغلب‭ ‬هذه‭ ‬الدّول‭ ‬من‭ ‬النّهوض،‭ ‬بينما‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬أفريقيا‭ ‬في‭ ‬حالها،‭ ‬تعاني‭ ‬من‭ ‬ويلات‭ ‬الحروب‭ ‬وفشل‭ ‬الحكومات‭ ‬وظاهرة‭ ‬الفساد‭ ‬السّياسي‭ ‬والحكم‭ ‬غير‭ ‬الرّشيد‭. ‬كما‭ ‬لم‭ ‬تتمكّن‭ ‬من‭ ‬المحافظة‭ ‬على‭ ‬الأوضاع‭ ‬الجيّدة‭ ‬في‭ ‬غالب‭ ‬الأحوال‭ ‬التي‭ ‬تركتها‭ ‬الأنظمة‭ ‬الاستعماريّة،‭ ‬من‭ ‬بنيات‭ ‬تحتيّة‭ ‬إلخ‭. ‬فلماذا‭ ‬هذا‭ ‬التّدهور‭ ‬والتّراجع؟

هناك‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬النّظريّات‭ ‬الاقتصاديّة‭ ‬والسّياسيّة‭ ‬والاجتماعيّة‭ ‬التي‭ ‬تُطرح‭ ‬لتفسير‭ ‬هذه‭ ‬الظّاهرة‭ ‬المأساويّة‭. ‬لكن‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬أحدث‭ ‬النّظريّات‭ ‬وأقواها‭ ‬أنَّ‭ ‬تلك‭ ‬الدّول‭ ‬قد‭ ‬نهضت‭ ‬عبر‭ ‬لغاتها،‭ ‬بينما‭ ‬أفريقيا‭ ‬قرّرت‭ ‬أن‭ ‬تنهض‭ ‬بلغات‭ ‬المستعمرين‭ ‬أو‭ ‬المستوطنين‭: ‬المستعمرون‭ ‬في‭ ‬حالات‭ ‬الاستعمار‭ ‬الأوربّي،‭ ‬والمستوطنون‭ ‬في‭ ‬حالات‭ ‬اللغات،‭ ‬مثل‭: ‬الأفريكانرAfricaaner‭ ‬واللغة‭ ‬العربيّة،‭ ‬مثلما‭ ‬في‭ ‬السّودان‭. ‬ففي‭ ‬السّودان‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬100‭ ‬لغة‭ ‬لا‭ ‬تعترف‭ ‬الدّولة‭ ‬بأيٍّ‭ ‬منها‭ ‬سوى‭ ‬اللغة‭ ‬العربيّة‭. ‬وقد‭ ‬دفعت‭ ‬الدّولة‭ ‬منذ‭ ‬الاستقلال‭ ‬بعجلة‭ ‬الاستعراب‭ ‬حتّى‭ ‬لو‭ ‬أدّى‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬تدهور‭ ‬التّعليم،‭ ‬الذي‭ ‬بالفعل‭ ‬تدهور‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬أن‭ ‬أصبح‭ ‬لنا‭ ‬خريجون‭ ‬لا‭ ‬يستطيعون‭ ‬اجتراح‭ ‬مقال‭ ‬باللغة‭ ‬العربيّة‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يذبحوا‭ ‬اللغة‭ ‬العربيّة‭ ‬بموسى‭ ‬الرّكاكة‭.‬

وليس‭ ‬من‭ ‬المستغرب‭ ‬أنًّ‭ ‬اللغة‭ ‬العربيّة‭ ‬نفسها‭ ‬كانت‭ ‬من‭ ‬أولى‭ ‬ضحايا‭ ‬موجة‭ ‬التّعريب‭ ‬والاستعراب،‭ ‬إذ‭ ‬أصبح‭ ‬الاستماع‭ ‬إلى‭ ‬أغلب‭ ‬مذيعي‭ ‬ومذيعات‭ ‬الإذاعة‭ ‬والتّلفزيون‭ ‬الجدد‭ ‬امتحاناً‭ ‬عسيراً‭ ‬في‭ ‬الصّبر‭ ‬على‭ ‬المكاره‭ ‬وتحمّل‭ ‬الأذى‭. ‬ولهذا‭ ‬نرى‭ ‬أنّ‭ ‬فتح‭ ‬باب‭ ‬كتابة‭ ‬اللغات‭ ‬الوطنيّة‭ ‬السّودانيّة‭ ‬لهو‭ ‬واجب‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المرحلة‭ ‬بالذّات،‭ ‬وهي‭ ‬المرحلة‭ ‬التي‭ ‬يتشوّف‭ ‬السّودانيّون‭ ‬لغدٍ‭ ‬يحمل‭ ‬لهم‭ ‬الأمل‭ ‬في‭ ‬ظلّ‭ ‬دولة‭ ‬ديموقراطيّة‭ ‬يسود‭ ‬فيها‭ ‬الحكم‭ ‬الرّشيد‭ ‬وفق‭ ‬قيم‭ ‬الحرّيّة‭ ‬والعدل‭ ‬والسّلام‭.‬

وتأتي‭ ‬اللغة‭ ‬النّوبيّة‭ ‬بوصفها‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬الظّواهر‭ ‬الفريدة‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬كتابة‭ ‬اللغات‭. ‬فهذه‭ ‬اللغة‭ ‬تعدُّ‭ ‬مع‭ ‬اللغة‭ ‬المرويّة‭ ‬أوّل‭ ‬لغتين‭ ‬أفريقيتين‭ ‬قد‭ ‬كُتبتا‭. ‬بخصوص‭ ‬اللغة‭ ‬المرويّة،‭ ‬نشير‭ ‬إلى‭ ‬أنّ‭ ‬اختراع‭ ‬الكتابة‭ ‬الأبجديّة،‭ ‬والانتقال‭ ‬من‭ ‬كتابة‭ ‬التّصاوير‭ ‬Hieroglyphics‭ ‬إلى‭ ‬الكتابة‭ ‬الأبجديّة،‭ ‬قد‭ ‬جرى‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬الأسرة‭ ‬الخامسة‭ ‬والعشرين،‭ ‬أي‭ ‬زمن‭ ‬الحكم‭ ‬الكوشي‭ ‬لمصر‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الثّامن‭ ‬قبل‭ ‬الميلاد‭. ‬وعلى‭ ‬هذا‭ ‬يمكننا‭ ‬إعادة‭ ‬قراءة‭ ‬تطوُّر‭ ‬الكتابة‭ ‬الأبجديّة،‭ ‬واضعين‭ ‬في‭ ‬الحسبان‭ ‬أنًّ‭ ‬تلك‭ ‬النّقلة‭ ‬التي‭ ‬حوّلت‭ ‬مجرى‭ ‬التّاريخ‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تحدث‭ ‬بمعزل‭ ‬عن‭ ‬تأثير‭ ‬الحكّام‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬العهد‭ ‬بكلّ‭ ‬أشكال‭ ‬الكتابة‭ ‬منذ‭ ‬فجر‭ ‬التّاريخ‭ ‬وإلى‭ ‬عصر‭ ‬النّهضة‭. ‬وقد‭ ‬ورثت‭ ‬اللغة‭ ‬النّوبيّة‭ ‬هذه‭ ‬التّجربة‭ ‬الكتابيّة‭ ‬القديمة،‭ ‬وذلك‭ ‬عندما‭ ‬اختطّت‭ ‬لها‭ ‬أبجديّة‭ ‬هي‭ ‬مزيج‭ ‬من‭ ‬الأبجديّات‭ ‬الإغريقيّة،‭ ‬القبطيّة‭ ‬والمرويّة‭. ‬في‭ ‬هذا‭ ‬تقدّم‭ ‬لنا‭ ‬اللغة‭ ‬النّوبيّة‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬حالات‭ ‬الاستمراريّة‭ ‬التّاريخيّة‭ ‬النّادرة،‭ ‬والتي‭ ‬تعود‭ ‬لآلاف‭ ‬السّنين‭. ‬ولكن‭ ‬هذه‭ ‬ليست‭ ‬إلاّ‭ ‬جانباً‭ ‬من‭ ‬المشكلة‭. ‬فمع‭ ‬كلّ‭ ‬هذا‭ ‬التّاريخ‭ ‬العتيق،‭ ‬يمكن‭ ‬النّظر‭ ‬إلى‭ ‬تجربة‭ ‬كتابة‭ ‬اللغات‭ ‬النّوبيّة‭ ‬الحديثة‭ ‬بوصفها‭ ‬بداية‭ ‬تجربة،‭ ‬وذلك‭ ‬بحسبان‭ ‬أنَّ‭ ‬النّوبيّين‭ ‬قد‭ ‬انقطعت‭ ‬تجربتهم‭ ‬الكتابيّة‭ ‬منذ‭ ‬أمدٍ‭ ‬ليس‭ ‬بالقصير‭.‬

الدّولة‭ ‬السّودانيّة‭ ‬في‭ ‬خانة‭ ‬مهدّدات‭ ‬اللغات‭ ‬الوطنيّة

ومع‭ ‬هذا،‭ ‬لم‭ ‬يفارق‭ ‬النّوبيّون‭ ‬إحساسُهم‭ ‬العميق‭ ‬بهذه‭ ‬الاستمراريّة‭ ‬التّاريخيّة‭. ‬فقد‭ ‬ظلَّوا‭ ‬يحلمون‭ ‬باليوم‭ ‬الذي‭ ‬تصبح‭ ‬فيه‭ ‬لغتهم‭ ‬مقروءة‭ ‬ومكتوبة،‭ ‬وهو‭ ‬حلم‭ ‬جدّ‭ ‬مشروع‭. ‬ولا‭ ‬أعرف‭ ‬لغةً‭ ‬سودانيّة‭ ‬نهض‭ ‬لها‭ ‬أبناؤها‭ ‬يرومون‭ ‬المحافظة‭ ‬عليها‭ ‬لترقيتها‭ ‬وتطويرها‭ ‬كما‭ ‬فعل‭ ‬النّوبيّون‭. ‬فالنّوبيّون‭ ‬مسكونون‭ ‬بالتّاريخ،‭ ‬ولا‭ ‬غرو‭ ‬إذ‭ ‬يجاورونه‭ ‬ويساكنونه‭ ‬في‭ ‬قراهم‭ ‬ونجوعهم‭ ‬في‭ ‬استمراريّة‭ ‬تاريخيّة‭ ‬قلّما‭ ‬نشاهدها‭. ‬ولكنّهم‭ ‬مع‭ ‬كلّ‭ ‬هذه‭ ‬الجهود‭ ‬المبذولة‭ ‬والنّوايا‭ ‬الصّادقة،‭ ‬لا‭ ‬أراهم‭ ‬قد‭ ‬أفلحوا‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬فلاحاً‭ ‬يُذكر‭. ‬فتطوير‭ ‬اللغات‭ ‬الوطنيّة‭ ‬ليست‭ ‬نشاطاً‭ ‬يبذل‭ ‬لتزجية‭ ‬أوقات‭ ‬الفراغ،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬صميم‭ ‬عمل‭ ‬الدّولة‭. ‬ولا‭ ‬يحتاج‭ ‬المرءُ‭ ‬منّا‭ ‬ليُشير‭ ‬إلى‭ ‬أنَّ‭ ‬الدّولة‭ ‬السّودانيّة‭ ‬تقف‭ ‬في‭ ‬خانة‭ ‬مهدّدات‭ ‬اللغات‭ ‬الوطنيّة،‭ ‬وذلك‭ ‬بانحيازها‭ ‬للغةٍ‭ ‬وثقافةٍ‭ ‬واحدة‭ ‬وذلك‭ ‬في‭ ‬حُمَيّا‭ ‬غلوائها‭ ‬الإسلاموعروبيّة‭. ‬ثمّ‭ ‬هناك‭ ‬سبب‭ ‬آخر‭ ‬يتعلَّق‭ ‬بالمتكلّمين‭ ‬بهذه‭ ‬اللغات،‭ ‬ألا‭ ‬وهو‭ ‬مقاربة‭ ‬أمر‭ ‬اللغات‭ ‬من‭ ‬زاوية‭ ‬رومانسيّة،‭ ‬غير‭ ‬علميّة،‭ ‬فيها‭ ‬تنتفخ‭ ‬الأوداجُ‭ ‬حماسةً‭ ‬والتهاباً،‭ ‬بينما‭ ‬يخلو‭ ‬العقل‭ ‬من‭ ‬أيّ‭ ‬رؤية‭ ‬ناهجة‭.‬

معرفة‭ ‬تحليلية‭ ‬دون‭ ‬منهجٍ‭ ‬علميّ‭ ‬سديد

وهذا‭ ‬ما‭ ‬أجد‭ ‬فيه‭ ‬أغلب‭ ‬متعلّمة‭ ‬النّوبيّين‭ ‬ممّن‭ ‬نهضوا‭ ‬لتطوير‭ ‬لغاتهم‭. ‬فأغلبُ‭ ‬هؤلاء‭ ‬ممّن‭ ‬يتحدّثون‭ ‬اللغة‭ ‬بطلاقة‭ ‬بوصفها‭ ‬اللغة‭ ‬الأم‭ ‬بالنّسبة‭ ‬إليهم‭. ‬ولكن‭ ‬لا‭ ‬غنى‭ ‬للذين‭ ‬يبغون‭ ‬تطوير‭ ‬اللغات‭ ‬من‭ ‬اكتساب‭ ‬معرفة‭ ‬تحليليّة‭ ‬بلغاتهم،‭ ‬وذلك‭ ‬بجانب‭ ‬المعرفة‭ ‬الأدائيّة‭ ‬performance knowledge‭ ‬باللغة،‭ ‬وهي‭ ‬مهارة‭ ‬التّحدّث‭ ‬باللغة‭ ‬ليس‭ ‬بطلاقة‭ ‬فحسب‭ ‬بل‭ ‬بإحاطة‭ ‬تامّة‭ ‬بالأساليب‭ ‬التعبيرية‭ ‬perlocutionary‭ ‬styles‭ . ‬فدون‭ ‬أن‭ ‬تسند‭ ‬تلك‭ ‬المعرفة‭ ‬الأدائيّة‭ ‬بأيّ‭ ‬قدرة‭ ‬على‭ ‬تحليل‭ ‬التّراكيب‭ ‬من‭ ‬نحو‭ ‬وصرف‭ ‬وخلافه،‭ ‬لن‭ ‬يكون‭ ‬مفيداً‭ ‬بدرجة‭ ‬كبيرة‭. ‬ولدينا‭ ‬كثيرون‭ ‬من‭ ‬هؤلاء‭ ‬المثقّفين‭ ‬النّوبيّين،‭ ‬لا‭ ‬يملك‭ ‬المرء‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬يأمل‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬يطوّروا‭ ‬هذه‭ ‬المعرفة‭ ‬الأدائيّة‭ ‬لتصبح‭ ‬تحليليّة‭ ‬أيضاً‭ ‬competence knowledge،‭ ‬وذلك‭ ‬ليرفدوا‭ ‬بدورهم‭ ‬الحقِّ‭ ‬في‭ ‬تطوير‭ ‬اللغة‭ ‬التي‭ ‬يحبّون‭.‬

نعم،‭ ‬لدينا‭ ‬عدد‭ ‬معتبر‭ ‬منهم‭ ‬ليس‭ ‬على‭ ‬معرفة‭ ‬أدائية‭ ‬عالية‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬جمعوا‭ ‬مع‭ ‬ذلك‭ ‬معرفة‭ ‬تحليلية‭ ‬عميقة‭ ‬باللغة‭ ‬النّوبية،‭ ‬لكن‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يقوم‭ ‬ذلك‭ ‬على‭ ‬منهجٍ‭ ‬علميّ‭ ‬سديد‭. ‬فمثلاً‭ ‬إذا‭ ‬سألتهم‭ ‬عن‭ ‬تركيب‭ ‬بعينه‭ ‬أفتوك‭ ‬بما‭ ‬يشفي‭ ‬الغليل‭ ‬وأكثر،‭ ‬لكن‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يجترحوا‭ ‬ذلك‭ ‬بأنفسهم‭. ‬والمعرفة‭ ‬التّحليلية‭ ‬تتعلًّق‭ ‬بالقدرة‭ ‬على‭ ‬تحليل‭ ‬التّراكيب‭ ‬النّحويّة‭ ‬والصرفيّة‭ ‬والصوتية‭. ‬فبينما‭ ‬يمكن‭ ‬وصف‭ ‬الأولى،‭ ‬المعرفة‭ ‬الأدائيّة،‭ ‬performance knowledge‭ ‬بأنّها‭ ‬معرفة‭ ‬لغوية‭ ‬language‭ ‬knowledge،‭ ‬يمكن‭ ‬وصف‭ ‬الثّانية،‭ ‬المعرفة‭ ‬التّحليليّة،‭ ‬بأنّها‭ ‬معرفة‭ ‬لسانيّة‭ ‬linguistic competence‭.‬

هذه‭ ‬خواطر‭ ‬عنّت‭ ‬لي‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬كتابة‭ ‬اللغات‭ ‬السّودانيّة،‭ ‬بعضها‭ ‬مأخوذ‭ ‬من‭ ‬إسهامات‭ ‬قدّمّتُها‭ ‬في‭ ‬الأسافير‭ ‬النّوبيّة،‭ ‬وبعضها‭ ‬قدّمته‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬المحاضرات‭ ‬وورش‭ ‬العمل‭.‬

تدريس‭ ‬اللغة‭ ‬النّوبيّة‭: ‬أسئلة‭ ‬لا‭ ‬بدّ‭ ‬من‭ ‬مواجهتها

جاء‭ ‬بموقع‭ ‬عبري‭ ‬تبج‭ (‬2015م‭) ‬خبر‭ ‬عن‭ ‬البدء‭ ‬في‭ ‬تدريس‭ ‬اللغة‭ ‬النوبية‭ ‬في‭ ‬روضة‭ ‬بالكلاكلة‭ ‬صنقعت‭. ‬وقد‭ ‬أثار‭ ‬الخبر‭ ‬دهشتي‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬أثار‭ ‬إعجابي‭. ‬أثار‭ ‬إعجابي؛‭ ‬لأنّه‭ ‬ببساطة‭ ‬ما‭ ‬من‭ ‬نوبي‭ ‬فيما‭ ‬أعلم‭ ‬يسمع‭ ‬بأنَّ‭ ‬اللغة‭ ‬النوبية‭ ‬قد‭ ‬أصبحت‭ ‬تُدرّس‭ ‬في‭ ‬أيّ‭ ‬مساق‭ ‬أو‭ ‬مرحلة‭ ‬إلاّ‭ ‬ويهتزّ‭ ‬فرحاً‭ ‬وانتشاءً‭ ‬لهذا‭ ‬الخبر‭. ‬ولهذا‭ ‬أفرحني‭ ‬خبر‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬هناك‭ ‬محاولة‭ ‬جادّة‭ ‬لتدريس‭ ‬اللغة‭ ‬النوبية‭. ‬إذن،‭ ‬فألف‭ ‬مبروك‭ ‬وإلى‭ ‬الأمام‭. ‬ثمّ‭ ‬أثار‭ ‬الخبر‭ ‬دهشتي‭ ‬لما‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬جسارة‭. ‬فالتّدريس‭ ‬كيفما‭ ‬كان‭ ‬شأن‭ ‬فنّي‭ ‬يقتضي‭ ‬درجة‭ ‬من‭ ‬الإعداد‭ ‬التّقني،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬الاستعداد‭. ‬وليس‭ ‬أصعب‭ ‬من‭ ‬التّعليم‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬المدرسة،‭ ‬أي‭ ‬مرحلة‭ ‬الرّوضة‭.‬

أسئلة‭ ‬تُطرح

على‭ ‬هذا‭ ‬قفز‭ ‬في‭ ‬ذهني‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الأسئلة‭ ‬التي‭ ‬أمّلتُ‭ ‬أن‭ ‬أجد‭ ‬الإجابة‭ ‬عنها‭ ‬في‭ ‬تلافيف‭ ‬التعليقات‭ ‬والمداخلات‭ ‬المتعاقبة‭ ‬التي‭ ‬أشادت‭ ‬بالتّجربة‭. ‬ولكن‭ ‬خاب‭ ‬فألي‭ ‬إذ‭ ‬لم‭ ‬أظفر‭ ‬منها‭ ‬بشيء‭. ‬إذ‭ ‬يبدو‭ ‬كأنّها‭ ‬لم‭ ‬تخطر‭ ‬على‭ ‬بال‭ ‬أحدٍ‭ ‬على‭ ‬أهمّيتها‭. ‬فما‭ ‬هي‭ ‬يا‭ ‬ترى‭ ‬هذه‭ ‬الأسئلة؟‭ ‬أدناه‭ ‬سوف‭ ‬أحاول‭ ‬تلخيص‭ ‬هذه‭ ‬الأسئلة‭ ‬في‭ ‬نقطتين‭ ‬فقط‭.:‬

النّقطة‭ ‬الأوّلى‭: ‬تدور‭ ‬حول‭ ‬أسئلة‭ ‬تتعلّق‭ ‬بالمستوى‭ ‬level‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬المحتوى‭ ‬التعليمي‭ ‬educational content‭ ‬الذي‭ ‬تّدرّس‭ ‬به‭ ‬اللغة‭ ‬النوبية‭ ‬لأطفال‭ ‬روضة؟‭ ‬وهذا‭ ‬أسُّ‭ ‬العملية‭ ‬التعليمية‭ ‬في‭ ‬اختطاط‭ ‬المناهج‭. ‬هل‭ ‬تُدرّس‭ ‬لهم‭ ‬اللغة‭ ‬في‭ ‬مستوى‭ ‬أدبها‭ ‬أم‭ ‬قواعدها‭ ‬أم‭ ‬مجرّد‭ ‬أغانٍ‭ ‬وأناشيد؟‭ ‬بالطّبع‭ ‬المرجّح‭ ‬هو‭ ‬الاحتمال‭ ‬الأخير‭. ‬ولكن‭ ‬حتّى‭ ‬هذا‭ ‬الاحتمال‭ ‬ينطوي‭ ‬على‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الإشكالات‭ ‬التربويّة،‭ ‬أوّلُها‭ ‬يبدأ‭ ‬بالمساءلة‭ ‬حول‭ ‬مستوى‭ ‬الأطفال‭ ‬في‭ ‬اللغة‭ ‬النوبية‭: ‬هل‭ ‬يفهمونها‭ ‬فقط‭ ‬أم‭ ‬يتكلّمونها‭ ‬أم‭ ‬أنّهم‭ ‬لا‭ ‬هذا‭ ‬ولا‭ ‬ذاك؟‭ ‬عدم‭ ‬التّحسب‭ ‬لهذه‭ ‬المسألة‭ ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬له‭ ‬مردود‭ ‬سلبي‭ ‬ينتهي‭ ‬بهؤلاء‭ ‬الأطفال‭ ‬إلى‭ ‬كراهيّة‭ ‬هذه‭ ‬اللغة‭ ‬والنفور‭ ‬منها‭.‬

النّقطة‭ ‬الثّانية‭: ‬وتدور‭ ‬حول‭ ‬عدّة‭ ‬أسئلة‭ ‬حول‭ ‬الغرض‭ ‬والمقصد‭ ‬التربوي‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬العمليّة‭. ‬هل‭ ‬القصد‭ ‬منها‭ ‬تعليم‭ ‬اللغة‭ ‬النّوبيّة؟‭ ‬إذن‭ ‬وفق‭ ‬أي‭ ‬إستراتيجيّة‭ ‬تعليميّة‭ ‬يتمّ‭ ‬هذا؟‭ ‬فتعليم‭ ‬لغة‭ ‬بعينها‭ ‬لا‭ ‬ينشأ‭ ‬في‭ ‬فراغ؛‭ ‬بل‭ ‬لا‭ ‬بدّ‭ ‬من‭ ‬إستراتيجيّة‭ ‬محكمة‭ ‬السّبك‭ ‬والتخطيط‭ ‬تبدأ‭ ‬من‭ ‬نقطة‭ ‬البداية‭ ‬وتنتهي‭ ‬إلى‭ ‬نقطة‭ ‬بعينها‭. ‬والمسافة‭ ‬بين‭ ‬هاتين‭ ‬النقطتين‭ ‬تتمثّل‭ ‬في‭ ‬عمليّة‭ ‬تحديد‭ ‬الكم‭ ‬المعرفي‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬يُتعارف‭ ‬عليه‭ ‬اصطلاحاً‭ ‬باسم‭ ‬piecemealing‭ ‬ حيث‭ ‬يبدأ‭ ‬صبّ‭ ‬كمّيّة‭ ‬معرفية‭ ‬بمستوى‭ ‬معيّن‭ ‬في‭ ‬شكل‭ ‬دروس‭ ‬تبدأ‭ ‬من‭ ‬نقطة‭ ‬محدّدة‭ ‬لتنتهي‭ ‬بنقطة‭ ‬أيضاً‭ ‬محدّدة،‭ ‬بعدها‭ ‬ينتقل‭ ‬الدّارس‭ ‬إلى‭ ‬مرحلة‭ ‬أخرى‭ (‬درس‭ ‬آخر‭ ‬بمستوى‭ ‬معرفي‭ ‬معيّن‭)‬،‭ ‬بدوره‭ ‬يبدأ‭ ‬من‭ ‬نقطة‭ ‬محدّدة‭ ‬وينتهي‭ ‬بنقطة‭ ‬معيّنة؛‭ ‬ثمّ‭ ‬إلى‭ ‬مرحلة‭ ‬أخرى‭ ‬فالتي‭ ‬تليها‭ ‬ثمّ‭ ‬إلى‭ ‬التي‭ ‬تلي‭ … ‬إلى‭ ‬آخر‭ ‬مستوى‭ ‬تمّ‭ ‬التخطيط‭ ‬له‭ ‬وفق‭ ‬الإستراتيجيّة‭ ‬الأساسيّة‭. ‬إذ‭ ‬بلا‭ ‬إستراتيجية‭ ‬واضحة‭ ‬سيتعذّر‭ ‬إجراء‭ ‬تقويم‭ ‬مردودي‭ ‬feedback evaluation‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬قد‭ ‬يُحيل‭ ‬المسألة‭ ‬كلّها‭ ‬إلى‭ ‬لا‭ ‬شيء‭ ‬في‭ ‬خاتمة‭ ‬المطاف‭.‬


اللغة‭ ‬النوبية‭ (‬بالنوبين‭ : ‬Nobiin‭) ‬هي‭ ‬إحدى‭ ‬اللغات‭ ‬المستخدمة‭ ‬في‭ ‬شمال‭ ‬السودان‭ ‬وجنوب‭ ‬مصر‭… ‬وتعتبر‭ ‬اللغة‭ ‬النوبة‭ ‬القديمة‭ ‬اللغة‭ ‬الأم‭ ‬المباشرة

تجربة‭ ‬شخصية

فالتخطيط‭ ‬المناهجي‭ ‬في‭ ‬التعليم‭ ‬عموماً‭ ‬عمليّة‭ ‬process‭ ‬مركّبة‭ ‬وبدرجة‭ ‬عالية‭ ‬من‭ ‬التعقيد،‭ ‬وليس‭ ‬مجرّد‭ ‬آلية‭ ‬mechanism‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬سبّورة‭ ‬ومدرّس‭ ‬ثمّ‭ ‬تلاميذ‭ ‬ينكبّون‭ ‬على‭ ‬كتاب‭ ‬يتدارسونه‭. ‬نعم‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الكورسات‭ ‬في‭ ‬تدريس‭ ‬اللغة‭ ‬النوبية،‭ ‬وكاتب‭ ‬هذه‭ ‬السّطور‭ ‬كان‭ ‬أوّل‭ ‬من‭ ‬درّس‭ ‬اللغة‭ ‬النوبية‭ ‬عام‭ ‬1996م،‭ ‬وذلك‭ ‬قبل‭ ‬صدور‭ ‬كتاب‭ ‬كبّارة‭. ‬لكن‭ ‬كلّ‭ ‬ذلك‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يستهدف‭ ‬مرحلة‭ ‬تعليمية‭ ‬وفق‭ ‬السُّلّم‭ ‬التعليمي‭ ‬الرّسمي،‭ ‬الذي‭ ‬يبدأ‭ ‬التخطيط‭ ‬له‭ ‬فعلاً‭ ‬من‭ ‬مرحلة‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬المدرسة‭ ‬pre-school‭ ‬إلى‭ ‬مرحلة‭ ‬الجامعة‭ ‬فما‭ ‬بعدها‭ ‬في‭ ‬عملية‭ ‬واحدة‭. ‬فما‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬كورسات‭ ‬تُسمّى‭ ‬إلحاقيّ‭ ‬access course،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يدخل‭ ‬في‭ ‬برامج‭ ‬تعليم‭ ‬الكبار‭ ‬وليس‭ ‬الأطفال‭. ‬وحتّى‭ ‬تلك‭ ‬الكورسات‭ – ‬وأنا‭ ‬هنا‭ ‬أتكلّم‭ ‬عن‭ ‬الكورسات‭ ‬التي‭ ‬درسته‭ – ‬كانت‭ ‬تجريبية،‭ ‬وتقوم‭ ‬مقرّراتُها‭ ‬في‭ ‬محتواها‭ ‬المعرفي‭ ‬على‭ ‬كتاب‭ ‬وضعه‭ ‬تربوي‭ ‬من‭ ‬الطّراز‭ ‬الأوّل،‭ ‬ألا‭ ‬وهو‭ ‬الأستاذ‭ ‬محمد‭ ‬متولّي‭ ‬بدر،‭ ‬عليه‭ ‬رحمة‭ ‬الله‭. ‬ومع‭ ‬ذلك،‭ ‬قمتُ‭ ‬من‭ ‬جانبي‭ ‬باستبعاد‭ ‬أقسام‭ ‬كبيرة‭ ‬ومهمَّة‭ ‬من‭ ‬الكتاب،‭ ‬وذلك‭ ‬في‭ ‬مسعى‭ ‬منهجي‭ ‬صارم‭ ‬لتحديد‭ ‬وترسيم‭ ‬حدود‭ ‬المحتوى‭ ‬المعرفي‭ ‬ليكون‭ ‬متجانساً‭ ‬بقصره‭ ‬على‭ ‬جنس‭ ‬بعينه‭ ‬من‭ ‬المعرفة‭ ‬اللغوية‭ ‬هو‭ ‬المطالعة‭ ‬Reader‭ ‬مستبعداً‭ ‬بذلك‭ ‬أقسامه‭ ‬التي‭ ‬تتناول‭ ‬النّحو‭ ‬من‭ ‬قواعد،‭ ‬وصرف،‭ ‬وخلافه‭.‬

وهذا‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬بالمرّة‭ ‬أن‭ ‬تدريس‭ ‬اللغة‭ ‬النوبية‭ ‬للأطفال‭ ‬ليس‭ ‬ممكناً،‭ ‬بل‭ ‬كلُّ‭ ‬ما‭ ‬نقوله‭ ‬إنّه‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬ضمن‭ ‬إستراتيجيّة‭ ‬تعليمية‭ ‬للغة‭. ‬فهل‭ ‬تواضع‭ ‬صاغةُ‭ ‬الكورس‭ ‬بروضة‭ ‬الكلاكلة‭ ‬على‭ ‬شيءٍ‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬القبيل‭ ‬أم‭ ‬أنّ‭ ‬المسألة‭ ‬كلّها‭ ‬لم‭ ‬تعدُ‭ ‬كونها‭ ‬تجريبية؟‭ ‬فأسُّ‭ ‬المحاذير‭ ‬التربويّة‭ ‬يكمن‭ ‬في‭ ‬القاعدة‭ ‬الذّهبيّة‭ ‬التي‭ ‬تقول‭ ‬إن‭ ‬التجريب‭ ‬في‭ ‬الأطفال‭ ‬يكون‭ ‬لكشف‭ ‬أوجه‭ ‬الخلل‭ ‬والقصور،‭ ‬أو‭ ‬التوفيق‭ ‬في‭ ‬محتوى‭ ‬مقرّر‭ ‬بعينه‭ ‬مقابل‭ ‬مقرّر‭ ‬آخر،‭ ‬كلاهما‭ ‬يقعان‭ ‬ضمن‭ ‬إستراتيجية‭ ‬مجازة‭ ‬في‭ ‬الأصل‭. ‬لكن‭ ‬أن‭ ‬يجري‭ ‬تجريب‭ ‬المقرّرات‭ ‬على‭ ‬الأطفال‭ ‬ضربةَ‭ ‬لازبٍ،‭ ‬فهذا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يؤدّي‭ ‬إلى‭ ‬نتائج‭ ‬ليست‭ ‬فقط‭ ‬غير‭ ‬مرغوبة،‭ ‬بل‭ ‬ربّما‭ ‬مناقضة‭ ‬للهدف‭ ‬الذي‭ ‬من‭ ‬أجله‭ ‬أُقيم‭ ‬الكورس‭.‬