عدت من مناطق الزراعة الآليّة بجنوب غرب ولاية النيل الأبيض، ولدى وصولي إلى كوستي، وبمجرد تنشيط خدمة الإنترنت، صعقني خبر رحيل أستاذي، وصخرتي، وسندي، ومن ظللت استعصم به ثلاثين عاماً، بروفيسور هيرمان بيل (1933م – 2023م)، عالم النوبيّات الذي أفنى 70 عاماً من عمره في دراسة اللّغات النّوبيّة، وتاريخ الحضارة النّوبيّة، ذلك الرّجل الذي أحبّ السّودان والسّودانيين بصورة عامة، والنّوبيين بصورة خاصّة، فبادلوه حبّاً بحب.

د‭. ‬محمد‭ ‬جلال‭ ‬هاشم

في الصباح الباكر من يوم الثلاثاء 7 فبراير 2023م، صعدت روح عزيزنا الرّائع هيرمان بيل إلى بارئها بعد حياة حافلة قضاها في العلم، وحب النّوبة، والنّوبيين خاصّة والشّعب السّوداني عامة.

علمتُ لاحقاً أنَّ عائلته حاولت الاتصال بي بعد وفاته مباشرة، فهم يرونني واحداً من أفراد العائلة، وهذا الشّعور أتبادله معهم، فهم – حقيقة- عائلتي، فكم حزنت وشعرت بالحسرة، لأنني لم أكن معه في تلك اللحظة الفارقة! أحببته معلماً ومرشداً وأباً وصديقاً، رحمه الله.

وهذا سيجعلني أكثر التزاماً وأكثر حرصاً – من أي وقت مضى – على إنهاء ما بدأته من الكتابة عن هذا الشخص الرائع.

إضاءة حول مسيرته

ولد هيرمان بيل في مدينة ريتشموند بولاية فرجينيا بالولايات المتحدة الأمريكيّة، ودرس وتخرج في جامعة برنستون. بعد ذلك جاء إلى أرض أجداده إنجلترا، ودرس علم المصريّات Egyptology بجامعة أوكسفورد (الكليّة الجامعيّة University College) هناك كان ضمن أساتذته عالم المصريّات الشّهير السّير ألان قاردنر. وهناك أيضاً، في أخريات الخمسينيات، وفي لقاء طلابيّ عفويّ بمبنى في شارع وودستوك Woodstock، التقى برفيقة عمره آن بيل التي كانت وقتها طالبة بجامعة أوكسفورد، كليّة القديس هيو St. Hugh’s College، وكانت وقتها كليّة خاصة بالبنات فقط (لاحقاً، بعد أن حوّلوها إلى كلية مختلطة، سوف يدرس بها ابنهما جوردان بيل، وينال فيها دكتوراه الفلسفة، حيث يدرّس الآن في كليّة بيليو Balliol College، بالجامعة نفسها)، بعد ذلك تحوَّل هيرمان بيل إلى دراسة اللّغات النّوبيّة مع بداية ستينيّات القرن العشرين. فقد انضمّ إلى مشروع اليونيسكو الرّامي، وقتها، إلى إنقاذ آثار النّوبة من الغرق جراء بناء السد العالي بأسوان، بوصفه طالب دراسات عليا بجامعة نورث ويستيرن North Western بالولايات المتحدة، حيث نال درجة الدكتوراه في اللّغات النّوبيّة عام 1969م.

من‭ ‬صوره‭ ‬في‭ ‬حلفا‭ ‬المضمنة‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬(الفردوس‭ ‬المفقود‭(

وقد سلك هيرمان بيل في رسالته للدكتوراه مسلكاً وعراً لا يقدر عليه إلّا ذوو العزم والعلم الرّاسخين. فقد جاء إلى اللّغات النّوبيّة من مدخل صعب، ألا وهو علم الأسماء الجغرافيّة Toponymy، ومصدر الوعورة فيه هو أنَّه، في جوهره، متعدّد المساقات، ذلك لأنَّ الأسماء الجغرافيّة تشتمل على اللّغة والتاريخ والجغرافيا مجتمعةً، هذا بجانب أنَّ الاسم الجغرافي دائماً ما يتحوَّر ويتغيَّر عبر التاريخ. وقد أتقن هيرمان بيل قواعد اللّغات النّوبيّة، مع إجادة واحدة منها (نوبين Nobiin) لدرجة التخاطب بها بطلاقة.

من السّودان إلى الرياض

بمجرد حصوله على الدكتوراه، عاد هيرمان عام 1970م إلى السّودان لينضمَّ إلى هيئة التدريس بجامعة الخرطوم (وحدة أبحاث السّودان ــــ لاحقاً معهد الدّراسات الأفريقيّة والآسيويّة) ليرأس شعبة اللّسانيات. وعندما شرع السّودانيون في الهجرة إلى بلاد البترول، سعياً منهم إلى تحسين أوضاعهم الاقتصاديّة، سافر معهم هيرمان بيل حيث انتهى به المقام هناك في جامعة الرياض رئيساً لشّعبة اللّغة الإنجليزيّة. وقد ظلّ بها إلى أن تقاعد للمعاش في عام 1990م، حيث عاد إلى المدينة التي درس بها وعشقها، أوكسفورد، ليقضي باقي عمره متنقلاً ما بين وطنه الثّاني، إنجلترا، ووطنه الثّالث السّودان، في رحلات مكوكيّة قد تتكرّر عدّة مرّات في العام الواحد، مع زيارات قليلة لوطنه الأول، أمريكا.

شجاعة مفرطة

وفي عام 2022م توعك قليلاً، وعند الفحص الطبيّ، تمَّ تشخيص مرضه: سرطان المثانة! فخضع للعلاج، وعندما ظننا جميعاً أنَّه قد تماثل للشفاء، ظهر عليه المرض نفسه مرة أخرى، لكن في الرئة. هنا وقف الطب عاجزاً عن فعل أي شيء نسبةً إلى تقدمه في العمر، فعاش شهوره الأخيرة ينام ويصحو متصالحاً مع الموت، في شجاعة مجيدة، غير هيّابٍ، ودون أن يفقد روح الدعابة حتى آخر لحظاته. لمثل هذا الرجل النّبيل، تُذرف الدموع، وتتقطع نياطُ القلوب!

هيرمان مع زوجته

الصلاة لوالدي

وهذا الحزن على هذا المعلم والوالد جعلت الذاكرة تستدعي ذلك اليوم المحفور بعمق في ذهني وعقل أستاذي ومرشدي في علم النّوبة هيرمان بيل، ألا وهو يوم رحيل والدي -رحمه الله- في يوم 22 يناير 2002م. في اليوم السابق لخروجي أنا وهيرمان من الخرطوم، نقود سيارتي اللاند روفر المتهالكة في خط سير رحلتنا السنويّة إلى النّوبة، شمال السّودان، كنَّا قد تركنا والدي في حالة مستقرة، على الرغم ما يبدو عليه من ضعف، إذ كان يعاني من سرطان الكبد.

بعد مغادرتنا أبو فاطمة سلكنا الطريق الصحراويّ الترابي. عند أحد التقاطعات، أخبرت هيرمان أن طريقاً معيناً باتجاه الغرب سيأخذنا إلى مسيدة، وهي قرية مركزية في خور حبراب، فأمرني على الفور أن أسلك هذا الطريق، إذا كان سيوصلنا إلى أنقاض كنيسة مسيدة. نفذت طلبه، وغيَّرت اتجاهي إلى ذلك الوادي. وعندما وصلنا إلى موقع أنقاض الكنيسة، قال إنّه يريد أن يصلي داخل الكنيسة المدمّرة. دخلنا الكنيسة وكنّا على ما يبدو واقفين في الطابق الأوّل. ثم قال هيرمان: أريد أن أصلي صلاتي باللّغة النّوبية القديمة!

قلت له: كما تريد.

أجاب: في هذه الحالة، أنت نوبيّ وشخص متدرِّب على اللّغة النّوبيّة القديمة، سيتوجب عليك أن تقرأ لي بعض الآيات من الكتاب المقدس باللّغة النّوبيّة القديمة.

عندما أبديتُ موافقتي، سألني: بما أنك أنت من ستقرأ الآيات باللّغة النّوبيّة القديمة، لمن تريد أن نهدي هذه الصلاة؟

أجبت على الفور: أريد أن أهدي الدعاء لأبي؛ أشعر أنَّه الآن بحاجة إلى مثل هذه الصلاة.

ثم اخترت من إنجيل لوقا الآيات 1: 27-29 التي تقول: (27) واسم العذراء مريم. (28) فلما جاء إليها يبشرها قال: السلام عليكِ، يا لها من نعمة الرب لكِ. (29) فاضطربت من الكلمة، وتأملت وقالت في نفسها: ما نوع هذا السلام؟

لقد قرأت هذه الآيات باللّغة النّوبيّة القديمة، وقام هيرمان (الذي كان مدرّباً جيّداً أيضاً على اللّغة النّوبيّة القديمة) بترديد الآيات معي.

انتهينا من الصلاة، ثم توجهنا إلى حيث كانت سيارتي اللاند روفر متوقّفة. في تلك اللّحظة نظرت إلى الوقت عبر نظام تحديد المواقع العالمي (GPS) الذي كان معلقاً في رقبتي. كانت الساعة بالضبط 2:15 ظهراً.

مع محمد‭ ‬جلال‭ ‬هاشم

ورحل أبي

استأنفنا رحلتنا وصلنا إلى قرية مشكيلا، حيث بقينا نحو 10 دقائق؛ لنلقي التحيّة على عائلة البروفيسور علي عثمان صالح، التي استضافتنا في العام السّابق. ثم استأنفنا رحلتنا دون توقّف حتى وصلنا إلى «شلبِن أوتي»، وهو معبر على نهر النّيل من جدي إلى كجبار، وبالعكس. ويتصادف أن شلبي هذا هو جدي الأكبر الذي جاء إلى هذه المنطقة من «كِدِن تو» (أرض الحجر). وأحفاده الذين استقرُّوا في تلك المنطقة كانوا على علم تام بعلاقتي بهم، كما كنت على علم بذلك أيضاً. في السّنوات التي سبقت قيامي بعملي الميدانيّ هناك، ظلوا يلحّون عليَّ لكي تكون إقامتي في بيوتهم. بينما كان هيرمان بيل يقوم ببحث الدكتوراه حول الأسماء الجغرافيّة لأرض الحجر في منتصف الستينيّات، فكّرت في اصطحابه إلى أقاربي آل شلبي لقضاء الليل هناك. وبعد دقائق قليلة من استقراري في منزل أقاربي في «شلبن أوتي»، عُدتُ بالسيارة إلى قرية فرّيق Farreig بحجة شراء الخبز. في ذلك الوقت، لم يكن هناك الجوال، وكان الهاتف الأرضي، فاتصلت بعائلتي في الخرطوم، فإذا أبي أتلقى الخبر الصادم، ألا وهو وفاة والدي في اليوم نفسه، في منتصف النّهار على وجه التحديد. ثم اتصلت بأخي الأكبر عادل الذي لم يؤكد لي الأخبار الحزينة فحسب، بل أعطاني كل التفاصيل التي أردت معرفتها عن اللّحظات الأخيرة من حياة والدي. ثم أخبرني أن والدي رحل عن الحياة في تمام الساعة 2:15 مساءً.

لقد كانت تلك معجزة!

خلال ما يقرب من 30 عاماً من العمل مع هيرمان بيل، واجهنا كثيراً من المعجزات، التي سأكتب عنها، وأهديها إلى روحه.

رحم الله والدي رحمة واسعة، ورحم أستاذي هيرمان بيل الذي ظلَّ يغالب المرض بشجاعة، وكان لا يمكن أن يفوت أي لحظة لإلقاء نكتة أو الضحك عليها، مهما كانت ضحكته مخنوقة.

سوف نتذكرك يا هيرمان، وسنظل نحبك.