محمد أبو شنب – سبوت

كنت مكلفا بالعمل على إعداد مادة فيلمية عن النوبة، الأمر الذي تطلب مني قراءة الكثير من المراجع والكتب والبيانات، ومشاهدة المواد المصورة، عن تلك المنطقة الرائعة الواقعة في أقصى جنوب مصر، قبل السفر إليها للوقوف على طبيعة الأشياء هناك.

استرعى انتباهي وأنا أطالع آلاف الصور، القديمة والحديثة للمنازل هناك، ألوانها الزاهية المبهجة، والرسوم والنقوش التي زينتها، والتي علمت فيما بعد أن كل من تلك الرسوم والنقوش لها دلالات وارتبطت بمعتقدات لدى الإنسان النوبي، إلا أن من أكثر ما أثار دهشتي، أن رأيت بعض صور لمنازل وضعت فوق أبوابها تماسيح مجسمة، ولم توضح لي الصور بالطبع طبيعة تلك المجسمات، هل هي أعمال فنية أو حيوانات محنطة، ومن هنا كانت بدايتي.

أسماء متعددة
والتمساح النيلي من أبرز الحيوانات البرمائية التي نالت قدرًا عظيمًا من الاحترام والتقديس عند المصري القديم بوجه عام، والإنسان النوبي بوجه خاص، إذ ارتبطت بالعادات والمعتقدات النوبية التي مازالت قائمة حتى الآن.

وللتمساح أسماء عديدة، تختلف – بالطبع – من مكان إلى آخر، ففي اللغة العربية يعرف بـ “تمساح”، أما في اللغة الفارسية – كما يقول الرحالة العثماني “أوليا جلبي” – فيعرف بـ (نهنك)، ويطلق عليه كذلك باللسان التركي “لوي”، وفي اللغة المغولية يعرف بـ (سلقون)، وفي منطقة النوبة يسمونه (وولي)، وفي النوبة العليا يعرف بـ “شونشار”، ويطلق عليها باللغة النوبية بلهجة “الفاديجا” – كما أشار إلى ذلك الباحث اللغوي النوبي “يوسف سمباج” – بـ “أولم” ouloum، أما بلهجة (الكنوز) فيطلق عليه بـ “أيلم” elom.

يوصف التمساح بـ “تنين النيل”، لأنه لا يعيش في النيل  ما هو أقوى منه أو أشد بأسًا وهجومًا، كما يوصف أيضًا بـ “كناس المياه”،  لأنه يتغذى على جميع الحيوانات، خاصًة النافقة.

رمز القوة وجلب الخير
والتمساح لدى النوبيين، وحش أسطوري، فما من قريه نوبية إلا ولها قصة مع التمساح، والنوبيون عمومًا كانوا من أكثر الأفارقة مهاره في صيد التماسيح، وقد أشتهر أهالي قرية (أمبركاب) بصيده بالبندقية الخرطوش.

ويعتاد النوبيون على اصطياد وتربية التماسيح الصغيرة والكبيرة من بحيرة ناصر، وبعد موتها يقومون بتحنيطها ووضعها فوق أبواب البيوت كرمز للشجاعة والقوة، حيث يتم فتح معدته وخروج جميع الأحشاء الموجودة بداخلها، واضافة كمية كبيرة من الملح للحفاظ على شكلها.

ويعتقد النوبيون أن التمساح “إله الخير” أو مجلبًا للخير، كما كان يعتقد المصريون القدماء، وعلى هذا الأساس، فإنهم يقدسونه ويحترمونه ويقومون بعنايته والاهتمام به إذ يعتقدون أن وضع التمساح محنطًا فوق أبواب البيوت، يمنع الحسد والعين، كما يمنع دخول الأرواح الشريرة.

أمثال نوبية ارتبطت بالتمساح
و هناك بعض الأمثال الشعبية المرتبطة بالتمساح، منها: (ألوما دومي أولما جاري)، بمعنى “من يفترسه التمساح يحتضنه”، يقال هذا المثل للرجل الذى تضطره الظروف لمجاراة غيره من الناس أو الخضوع له خوفًا من شره”، وكذلك (بهر أولم كنجل هسن كتج)، بمعنى “البحر الذى لا توجد فيه تماسيح أسبح فيه”، يضرب هذا المثل لنصيحة الشخص باغتنام الفرصة في غياب من يمنعه أو يردعه، وأيضًا (أولوما بهرا أنجي إيجينا)، بمعنى “التمساح في البحر يا خال”، يضرب هذا المثل للتأكيد أن طاعة أولى الأمر واجبة، وأخيرًا (ألوم ويكي تيركيرا تناي أشيما)، بمعني “إذا اعطيته تمساح أعتبره ورل”، ويضرب هذا المثل كدليل على الاستهانة بالمعروف.

ومن أبرز خواص التماسيح – كما أشار المؤرخ اليوناني (هيرودت) – أنها تصوم عن الطعام، أثناء أشهر الشتاء الأربعة، وأثناء حراسة الأنثى للبيض، وفي فترات الجفاف، كما أنها تعيش في الماء واليابس معًا على حدًا سواء، وتضع الأنثى بيضها على الشاطئ.

درجة الحرارة ونوع المولود
 تمضي التماسيح أكثر النهار على الأرض الجافة، لكنها تقضي الليل كله في النهر، لأن ماءه يكون حينئذ أكثر دفئا، ويعتبر التمساح هو الحيوان الوحيد الذى ليس له لسان، ورغم أنه أعشى في الماء، إلا أن بصره حاد جدًا في الهواء، وبسبب بقاءه في الماء، يمتلئ فمه كله من الداخل بالعلق.

وتعد درجة حرارة تحضين العش،  كما أشار الباحث البيئي عمرو الهادي من العوامل المهمة في  تحديد جنس ونوع مولود التمساح، فعند درجة حرارة 30 أو أقل يصبح الناتج إناث، وعند درجة حرارة 31 إلى أكثر يصبح الناتج من كلًا من الجنسين (ذكر أو أنثى)، وعند درجة من  32 إلى أكثر يصبح الناتج ذكور.

العدو والصديق لتنين النيل
يعتبر طائر الزقزاق – كما يقول الرحالة العثماني “أوليا جلبي” – صديق التمساح، حيث يسمح له بالدخول إلى معدته وإخراج ما بها من حشرات وقاذورات، وعندها يشعر التمساح بالراحة والارتياح من الثقل الذي كان يملأ معدته، ومن الممكن أن يقوم التمساح بالتهام هذا الطائر إذا لم يخرج من جوفه بسرعة، ولكن من حكمة الخالق أن لهذا الطائر عظمة مدببة وحادة في قمة رأسه، فإذا قام التمساح بغلق فمه وهو بداخله، يقوم هذا الطائر بغرس هذا السن المدبب عدة مرات في فم التمساح، فما يكون من التمساح تحت تأثير هذا الألم، إلا أن يفتح فمه عن آخره كالتنين، فيخرج هذا الطائر سليمًا.

كما يعتبر فرس النهر العدو اللدود للتمساح، وهو يوجد بكثرة في بلاد النوبة العليا بولاية البربر ومدينة دنقلة بالسودان، وينتشر هذا الحيوان النهري خصوصًا في مناطق الحدود، لذلك تقل أعداد التماسيح في مثل هذه المناطق.