اللّغة هي وسيلة التّواصل المثلى بين مستخدميها، إذ هي أداة الإنسان في تفاعله الاجتماعي، وبها يشبعون حاجاتهم في التعبير عن رغباتهم ومشاعرهم، ويتخذونها وسيلة للتعليم والتعلم وحفظ التراث الثقافي. وعن طريقها يكتسبون قيما ومثلاً واتجاهات، ويتخذونها وسيلة للتنفيس والترويح عن النفس.
واللّغة النوبيّة لا تختلف عن غيرها من اللّغات فيما توفّره للمتحدثين بها من وظائف مختلفة، وعبرها ظلّت حيّة متداولة بين الناس، ومكَّنت من استمرار ثقافتنا وعاداتنا وتقاليدنا.
وينتشر النّوبيون في أجزاء كثيرة من السّودان ومصر، ودول المهجر المختلفة.. ويتميَّزون من الأمم القديمة الأخرى بمحافظتهم للّغتهم النوبيّة وشدّة تعلقهم بها، بينما اندثرت بعض اللّغات من حولها، وتحوّلت إلى لغات ميتة لعدم وجود من يتحدّث بها، وتقتصر قراءة ما كتب بها من نصوص على العلماء وحدهم كالمصريّة القديمة والإغريقيّة ونحوهما. إنًّ هذا الوضع يقتضي الإشارة إلى بعض ما تواجهه النّوبيـّة من مشكلات:
أمنيات لا أكثر
معلوم أنَّ النوبية اقتصرت على مجالي الكلام والاستماع، وتخلَّت عن مجالي الكتابة والقراءة؛ فاقتصر مجالها اللّغويّ منذ قرون عديدة على الشفويّة في التعبير، وفقدت بفقدان الكتابة تسجيل تراثها وثقافتها، وأصبح لزاماً على أهلها أن يستخدموا رموزا خاصة بها للكتابة، أو البحث عن لغة وسيطة للاستعانة برموزها على التحرير الكتابيّ، كالعربيّة والإنجليزيّة، مع ما بينهما من بون شاسع لغويّاً، لاختلاف طبيعتها الصوتيّة. وبذلك لا تستطيع أن تنافس كثيراً من اللّغات الحيّة، في مجال التعليم والتعلم؛ لقدرة هذه اللّغات بفعالية أن تقوم مقام النوبيّة في مجالي التعبير الشفويّ والتلقي السمعيّ، وتزيد عليها في مجال التعبير الكتابيّ والتلقي القرائيّ.
لقد تفاقمت هذه المشكلة لتقصيرنا كثيراً في الاهتمام باللّغة النوبيّة، إلّا في جلساتنا، وبعض أشواق المهتمين بها، ويقتصر كثير منّا على التّحدث عنها بشيء كثير من الاعتزاز والصوت العالي والحادّ كثيراً، ونسطّر في وسائل التواصل الالكترونيّ بكثير من التوكيد ما سنفعله في خدمة لغتنا النوبيّة؛ كتحرير المعجم النوبيّ، والمطالبة بوجوب تعلّمها وتعليمها لكلّ النوبيين والأطفال بصفة خاصّة. ولكنّنا لم نعد لهذا الأمر عدّته .. هذا باستثناء بعض الاجتهادات الشخصيّة المقدّرة في تحرير المعجم، وما تقوم به منظمة دنقلا الثقافيّة من إعداد الشّباب وتأهيلهم وتوفير المظلّة الأكاديميّة لهم من خلال جامعة أفريقيا العالمية.
جهود مقدَّرة
تبنَّى مركز يوسف الخليفة بجامعة إفريقيا العالمية كتابة اللّغات، ومن بينها النوبيّة، بالحرف العربيّ المنمّط، وعالجت كتابة الأصوات النوبيّة الخاصّة، أي ما لا مقابل لها في الأصوات العربيّة أو ما تنحو بها صوتاً قريباً منها؛ بوضع علامات خاصّة تميّز الصوت النوبيّ لأقرب صوت عربيّ.
وآثر بعض الباحثين الكتابة بالرموز العربيّة وعلامات تشكيلها، مع الاجتهاد في اتخاذ رموز معيّنة للأصوات التي لا مقابل لها في العربيّة؛ منهم: الأستاذ سيّد محمد عبدالله في كتابه: (من حياة وتراث النّوبة بمنطقة السّكوت)، في 1974م . والأستاذ محمد متولي بدر في مؤلفاته (اقرأ النوبين 1976م)، و(حكم وأمثال النوبة 1978م) ثم معجمه الرّائد (اللّغة النوبيّة).
واتخذ آخرون رموز اللّغة الإنجليزيّة، منهم: آرمبرستر في معجم Dongolese Nubian. 1965م ملتزماً الطريقة الصوتيّة لكتابة الرّموز. ومحمد عثمان عدنان في قاموسه ( نوبين )، 2000م، وإن كتب ما يقابلها بالعربيّة . والأستاذ محمد عبد الماجد أحمد إدريس في معجم نوبري – كاي ( دنقلاوي – عربي ).
وأصبح الباحثون ينظرون بعين الرضا ما توصل إليه مختار خليل كبارة من رموز في كتابه (اللغة النوبية كيف تكتبها، 1997م)، وقد ذكر في (ص 30) أنَّها مأخوذة من الأبجدية القبطيّة، والقبطيّة والنوبيّة قد أخذتا في الأصل عن الأبجدية اليونانيّة القديمة، مع بعض الإضافات لكلّ منهما. وكلها كانت تكتب من اليسار إلى اليمين. وقد التزم بهذه الطريقة قاموس اللّغة النّوبيّة (محس – فاديجا) من إعداد مكي علي إدريس وخليل عيسى، وإن اعتمدا أيضاً اللغة العربية لشرح وكتابة الكلمات.
هل يمكن أن نتفق؟
ومن إشكالات اللّغة النّوبية ما بين لهجتي(الأنداندي) و(النّوبين) من اختلاف في طريقة استخدام اللّغة صياغة ومعجماً، وإن كان أصلهما واحداً، وبينهما تطابق في غالب المفردات، ومن أمثلة الاختلاف، أن اللّحم يطلق عليه في النوبين :(أرْج) وفي الأنداندي (كسو) ويطلق في النوبين على اللّبن (سُو)، بينما يقال له في الأنداندي ( إجِّي) . ومن ظواهر الاختلاف بين اللّهجتين ما يعتري المفردات من الإبدال والإعلال والإقلاب، كما في: فا / با.. فلي / بلي.. كف / كب. وقد يستخدم اللّفظ في دلالة معينة في إحداهما بخلاف ما تستخدمه فيه الثانية؛ كما في: (أسِّي) بمعنى الماء عند الانداندي، بينما يستخدم النوبين (أمن) للمعنى نفسه، وإن كانوا يستخدمون (أسي) بمعنى السائل: الدمع في بعض التراكيب كما في (ماج أسي)، ويستخدم مطلقا بمعنى المرق.
وكذلك يستخدم الانداندي والنوبين لفظ أمن في نحو (أمنْ دكِّي) الذي يطلق عندهما معاً على السلحفاة. ويطلق النّوبين لفظ (كَجْ) على الحمار، بينما يطلقه الأنداندي على الحصان. وقد يتأثر لسان مجموعة بألفاظ دخيلة (من العربيّة أو غيرها) لا تألفها المجموعة الثّانية. ومرد بعض الاختلاف إلى طريقة تركيب الجملة في كل منهما.
وما ذكرناه من الاختلاف بين اللّهجتين يجعل من كل منهما كأنّها لغة مستقلة قائمة بذاتها، خاضعة لقوانينها الصّوتية التي تخصُّها، غير أنّ اشتراكهما في مجموعة من الصّفات اللغوية، يرشح بوجود لغة نوبية معيارية تفرعت منها اللهجتان، ثم اندثرت لعدم استخدامها في الكتابة بها. وأدى هذا الاختلاف إلى إشكال في تعلم النوبية وتعليمها، أو التواصل عبرها بين المجموعتين. فهل ندرس كل منهما منفصلاً، أو نركز على واحدة منها دون الأخرى.. ويبقى السؤال هل يمكن أن نتفق مستقبلاً على لغة واحدة من مجموع اللهجتين؟! كما هي الحال في اللّغة العربيّة التي كانت في أوّل أمرها لهجات محليّة وقبليّة.
التأثير المتبادل بين اللغات
يرى بعضنا في ارتباط المعجم النوبيّ بمفردات غير نوبيّة إشكالاً ينبغي التّصدي له بالحدّ منها، أو تنقيتها منها، بل أزعج بعضهم ارتفاع نسبة المفردات والعبارات العربيّة في اللّغة النوبيّة فنادوا بالتخلُّص منها، وذهب بعضهم إلى وجوب إبدالها بمفردات غير عربيّة. وأيا كان السّبب الذي دعاهم إلى هذا الموقف المتشدّد، فإن انتقال الألفاظ اللغويّة بصوره المختلفة من لغة إلى أخرى أمر عرفته اللّغات كلّها في كلّ العصور، ويمثل إفرازاً طبيعيّاً للتواصل بين الشّعوب، وعلاقاتها الحيويّة والاجتماعيّة. من ذلك أن المفردات الدّخيلة من العربيّة على اللّغة التركيّة على سبيل المثال تعدَّت الـ 60%، بجانب ما اقترضتها من الفارسيّة وغيرها. كذلك اقترضت اللّغة النوبيّة كثيراً من المفردات من اللّغات الأخرى ولاسيّما العربيّة بعد أن حوّرتها إلى صيغها الصوتيّة الخّاصة، وسماتها اللّغويّة من ناحية أسلوب أدائها، ونظمها التّركيبيّة. ولاشكّ أنّ هذا الاقتراض تمّ بعد أن دخل أهل النّوبة في الإسلام واحتكّوا بالعرب؛ فتسلّلت إلى لغتهم مفردات عربيّة كثيرة وانسابت بين كلماتها، لاسيّما المصطلحات الدينيّة أو ما يرتبط بالإسلام عقيدة وسلوكاً، بجانب ما تسلّل إليها قبلاً من اليونانيّة والإغريقيّة والقبطيّة.
في الوقت نفسه، مدَّت اللّغة النوبيّة غيرها بكثير من المفردات كما في مصطلحات الساقية النوبيّة على سبيل المثال، عندما غزت الأقاليم غير النوبيّة التي تمارس الزّراعة بواسطة السّاقية كالشّايقية وغيرهم. وأصبحت تستخدمها حتى اليوم، ولم يحوروا فيها إلّا قليلاً وذلك بإضافة السّمات الصوتيّة الخاصّة بهم على الأصل النوبيّ. وعلى الرغم من الهيمنة العربيّة في كل مسار الثّقافة والأدب والتّعليم على الإنسان النوبيّ إلّا إنه ظلّ متمسكاً باللّغة النوبيّة، وبها يتواصل. بل إنها ظلت صامدة منذ فجر التاريخ رغم ما انتاب أهلها من أحداث وحوادث على مر الزمان.
وما واجهتها اللغة النوبية في العقود الأخيرة لا تجعلنا نتمسك بفحوى صلابة اللغة النوبية وقدرتها على قهر ما ينتابها بسبب الهجرة أو التهجير من المنطقة النوبية إلى مناطق بعيدة ومختلفة تماماً عن البيئة النوبية، وارتباط أبنائنا بثقافات بيئاتهم الجديدة ومعايشة أهلها، وذوبانهم بإرادتهم في ثقافتها، وتأثرهم بعاداتها وتقاليدها، والتحدث كما يتحدثون، والارتباط برموز الفكر والفن العربي والعالمي.
حلول مقترحة
يتضح مما ذكرت من المشكلات التي تواجه اللّغة النّوبيّة ضرورة التّصدِّي لمعالجتها بعد إخلاص النيّة والإعداد العلميّ المناسب. ومن التوصيات التي أراها مناسبة أذكر ما يأتي:
تبني ورش عمل، أو مؤتمر علميّ يدعى له المختّصون والمهتمون باللّغة والثّقافة، وليكن من محاورها: تحرير المعجم الجامع – الرموز الكتابيّة – تجميع اللّهجات النوبيّة… على أن تكون بإشراف هيئة علميّة تابعة لإحدى الجامعات أو أكثر من جامعة..
تكملة جمع التراث النوبيّ، وإعادة النّظر فيما أعدّ، إذ مضى منذ أعدادها في أوائل السّبعينيات قرابة نصف قرن، وأفرزت المنطقة مستجدَّات كثيرة جديرة بالتسجيل، بجانب ضرورة تحرير ما سبق تسجيله من قبل، وأذكر منها: تراث المحس، وتراث وادي حلفا وتراث مناطق دنقلا والفديجا والكنوز. بجانب استكتاب الباحثين وطلاب الدّراسات العليا في التاريخ النوبيّ ونحوه.
تبني دار للثّقافة النوبيّة في العاصمة والمناطق النّوبيّة المختلفة.
السّعي إلى تبنِّي إنشاء أقسام للدّراسات النّوبيّة في الجامعات ذات الصلة بالنّوبيين، بعد الإعداد الجيّد لمقرراته ومفردات كل مقرّر.
تبنِّي مجلة علميّة رصينة متخصّصة في الدّراسات النوبيّة.