عرفه النوبيون الذي عركوا العمل النوبي في المملكة العربية السعودية، والإسفيريون من أيام المنتدى النوبي العالمي في أواخر تسعينيات القرن الماضي، والمنتديات التالية مع بداية الألفية الثانية، وإن كان بدأ خوض غمار العمل النوبي من نادي بوهين بالخرطوم، قبل أن يهاجر إلى السعودية.

كان منتشراً في كل وسائل الإعلام المتاحة، والكيانات التي حملت الهم النوبي، وعُرف بصراحته، وجرأته في الدفاع عن رأيه، واتفق واختلف مع كثيرين في الشأن العام، دون أن يشتط، أو يفجر في الخصومة، بل كان بيته مفتوحاً للجميع، وعامراً بالمبدعين من شعراء وفنانين من النوبيين في السودان ومصر، لظنه أن الأدب والفن يذيبان الاختلافات، ويهذبان النفوس، ويقربان بين النوبيين.

محمد سليمان أحمد ولياب؛ منذ 2004م، ذاع صيته وتجاوز حدود وادي النيل والمملكة بعد ارتباط اسمه باليوم النوبي العالمي، كما صادف ذلك العام الاحتفال بـ«حلفا 2004».

هذه الأسطر القليلة عنه، للتعريف ببعض رؤاه، وبفكرة مساهمته في إطلاق «اليوم النوبي العالمي»، اعتماداً على المعرفة الشخصية، وبعض كتاباته في صفحته بالفيسبوك، التي تظلُّ مصدراً مهمَّاً، ومن أثره الباقي -رحمه الله-، وهو من مواليد وادي حلفا (دبيرة) في 19 ديسمبر 1952م، ووافته المنية في 31 يناير 2022م.

لماذا «ولياب»؟

تحدث ولياب عن سر هذا اللقب الذي التصق به، فقال: «ولياب اسم أو لقب لازمني منذ فترة ليست بالقصيرة حيث عرفني كثيرون به، وتداولوه فارتضيت به. وهو اسم قبلي يقودني إلى نسب اعتز به، وانتماء أتفاخر به؛ إذ أنَّ آل الولياب يوجدون بكثافة وامتداد عبر مساحة شاسعة في الأراضي النوبية إلى الهند والصين وأوروبا والأمريكيتين»، وأحال إلى كتاب «الولياب» للأستاذ محمد عثمان فركاوي، مشيراً إلى أن كثيرين يزاحمونه في اللقب، وهم «مجموعة خيرة من الأبناء والأحفاد من هذه الشجرة»، ومنهم الأستاذ احمد عباس، الذي يشاركه في لقب ولياب، كما أنَّه يزاحم الأستاذ الأديب الشاعر (جدكاب) رئيس جمعية التراث النوبي بالقاهرة وهو من قسطل -آنذاك- في الاسم، إذ يتشابه الاسمان حتى الجد (محمد سليمان أحمد)، ويذكر ثلاثة مواقف حضره مع جدكاب، إذ ترجما نصاً نوبيَّاً كُتِب على درع تذكاري قدمه النوبيون إلى المفكر المصري مبلاد حنا، فترجم ولياب النص، وأرسله عبر الفاكس، وفي لقاء تلفزيوني قام بالترجمة ولياب الآخر (جدكاب)، كما اجتمع الوليابان في لقاء تلفزيوني عن طريق مشروع (قسطل وادي حلفا)، وكذلك شاركا في لقاء تلفزيوني عن اللغة النوبية، وهذا ما أحدث إرباكاً للمتلقين، الذين كانوا يتساءلون عما إذا كان هناك لبس ما.

الاستقلالية هاجسه

كان ولياب حريصاً على تأكيد عدم تبعيته لأي جهة، أو انقياده لأي فكر، إذ يرى نفسه حراً في أن يتفق مع هذا، ويختلف مع ذاك أو أولئك، وكان لفرط حرصه على إيصال فكرته يسهب في الشرح، ويضع جملاً – قد تبدو طويلة – بين معترضتين، وأسمى طريقته هذه «شرح الشرح».

ولعله تأثر بما عاناه من سوء فهم من كثيرين، خصوصاً في أيام المنتديات، والناس في بدايات التعبير عن أنفسهم عبر الشبكة العنكبوتية، التي غدت في ذلك الوقت من إطلالة الألفية الثانية ساحة لمعارك ضارية، خرج بعضها عن اللباقة، وأدب الحوار، إلَّا أنَّ أمثال ولياب من ذوي الصبر والجلد، كانوا يحاولون شرح أفكارهم بتكرار عجيب، هادفين إلى عدم فقدان أحد بسبب فكرة أو وجهة نظر.

للغربة معنيان

كان ولياب مهموماً بالغربة من ناحية البعد عن الوطني، الذي وصل إلى مرحلة الهجرة، بعد أن مكث كثير من النوبيين في دول الاغتراب نحو قرن أو يزيد، وكان مهموماً أكثر بالغربة، بمعنى البعد عن العادات والتقاليد النوبية، وقد لاحظ ذلك بوضوح بعين الباحث، وهو الذي عاش نحو 40 عاماً في الرياض، ابتعاد الجيل الجديد من الأبناء والأحفاد عن عادات النوبة وتقاليدها، وهم ولدوا ونشؤوا في بلاد بعيدة عن وطنهم، فتطبعوا بطبعها، ولبسوا لباسهم، وتحدثوا بلغاتها، ولهجاتها، وهو يدعو هؤلاء إلى أن يكونوا قريبين من أهلهم، ويكتسبوا منهم العادات والتقاليد التي لازمتهم في غربتهم، من خلال جمعياتهم وروابطهم.

ولعل ولياب من أوائل الذين طبقوا فكرته، فكان يصطحب بناته معه، وكن يقمن بإعداد الأفلام التوثيقية وتقديم الحفلات النوبية، والمشاركة في التنظيم، وهذا ما قربهم إلى مجتمعهم النوبي، فلم يجدن معاناة في التكيف مع ظروف الوطن عندما عاد ولياب مع أسرته.

ترجم ولياب مع المهمومين بالشأن النوبي هذا الحرص على تواصل الأجيال وربط الأبناء بتراثهم، فعملوا على إنشاء مجموعة من الكيانات النوبية، منها: المنتدى النوبي العالمي، والملتقى النوبي الاجتماعي الثقافي، والتحالف النوبي العالمي، وغيرها من الكيانات.

من رحم المعاناة في توحيد الجهود النوبية، وحمل النوبيين على الاتفاق في شأن من شؤونهم، جاءت فكرة ولياب في الاحتفال باليوم النوبي العالمي.

ولادة فكرة “اليوم النوبي العالمي”

ينتظم العالم فعاليات اليوم النوبي في السابع من يوليو من كل عام؛ بوصفه مناسبة ثقافية اجتماعية غير هادفة للربح، ويحتفل به النوبيون من أجل تعزيز الانتماء، وإحياء تراثهم، وعاداتهم، وجاءت طرح الفكرة في عام 2004م من الأستاذ محمد سليمان ولياب من واقع قراءة فعاليات نوبية أُقيمت حول العالم. فعلى مدى سنوات طوال أقامت جٍهات وكيانات نوبية منفردة، وأحياناً بمشاركة جهات أو منظمات مناسبات في مدن وعواصم عالمية مختلفة تحت اسم (اليوم النوبي)، وتوزعت بين احتفالات ومهرجانات ولقاءات وندوات لاقت كثيراً من النجاح، وشهد تلك الاحتفاليات جمع غفير من الجماهير من مختلف الجنسيات، وتركت وقعاً طيباً في النفوس.

تلك المهرجانات والاحتفاليات التي كانت تقام تحت اسم (اليوم النوبي) لم تكن في تواريخ ثابتة، ولم تأخذ صورة (الدورية السنوية) ليتكرر قيامها في الموعد ذاته في الأعوام التالية رغم النجاحات التي أبهرت الجميع.

هذا الجهد المبذول من النوبيين للاحتفال بثقافتهم وتراثهم لم يكن منظماً، ولم يوجد تياراً متدفقاً يلفت الانتباه، وهذا ما رآه ولياب عملاً تذروه الرياح بعد أيام، ويصبح شيئاً من الماضي  يتلاشى أثره شيئاً فشيئاً، حتى يختفي، ولهذا دعا إلى أن يتوَّحد النوبيون في احتفال سنوي على مستوى العالم يكون ذا أثر، وخصوصاً إذا أخذنا في الحسبان تدافع النوبيين بالمناكب من أجل التجويد، والتنافس في التنظيم، وفي خطف الأضواء الإعلامية لتتركز في ذلك اليوم على ثقافتهم، وعاداتهم، وتقاليدهم، وآثارهم، ورموزهم، وغير ذلك من الجوانب المضيئة في مسيرة حضارتهم العريقة، التي رفدت

الحضارة الإنسانية، وأسهمت في إغنائها في مختلف ميادين الحياة.

كيف جاء تحديد التاريخ؟

عندما استقرت فكرة توحيد الجهود، وتخصيص يوم موحد لإقامة فعاليات نوبية في مختلف أصقاع الدنيا بأسلوب منظم، وإتقان عالٍ، كانت الحيرة والتحدي في اختيار تاريخ معين سنويَّاً من خريطة التاريخ النوبي الشائك والممتلئ بالمناسبات السعيدة والحزينة، وكان لابد أن يكون لهذا التاريخ الدلالات ذاتها عند جميع النوبيين، حتى لا يكون هنا هاجس لدي أي مجموعة،   فاتجه التفكير إلى اختيار تاريخ غير مرتبط بأحداث معينة، ويكون ذا مدلول أعمق وأقرب إلى النوبية في تراثها وإرثها الحضاري ، ويكون له وقع طيب نفوس الجميع على امتداد الأرض النوبية في وادي النيل بشقيه المصري والسوداني؛ فوقع الاختيار على اليوم السابع من الشهر السابع من كل عام؛ للارتباط العميق بين النوبيين والرقم (سبعة)، بل إنَّ هذا الرقم له حضوره الطاغي في ثقافات أخرى، ومن بينها الثقافة الإسلامية، وهذا ما يوسع الاهتمام بهذا اليوم، ويلفت أنظار العالم إليه.

النوبيون والرقم (7)

ولعلي أرجع إلى الدكتور محمد صبحي، وهو مؤرخ نوبي مقيم بقرية جزيرة أسوان النوبية، الذي أكد أن النوبيين أحبوا الرقم 7 وعشقوه لأسباب عدة من بينها أن الرقم 7 هو قاسم مشترك في معظم الطقوس الخاصة بأبناء النوبة، ومن ذلك:

  • أخذ 7 حفنات من التراب من تحت أقدام خطوات المسافر، والاحتفاظ بها حتى عودته؛ لنثرها على عتبة الباب.
  • عند حفر أساس منزل جديد توضع فيه 7 بلحات.
  • لا يخرج العريس إلى أسرته إلا في اليوم السابع من حفل الزفاف، ثم يقوم بزيارة 7 منازل من منازل أقربائه.
  •   تقفز المرأة التي ولدت حديثاً 7 مرات فوق كومة من النار، وفي اليوم السابع تغسل وجهها بالرماد في نهر النيل.
  • يؤخذ الطفل في اليوم السابع إلى النيل؛ لغسل وجهه ويديه وقدميه، وهو ما يعرف بيوم «السبوع» في مصر، أو «السماية» في السودان.
  • الدوران حول نخلة معمرة 7 مرات للزوجين الحديثين ممسكين بعود أخضر به 7 ورقات.
  • يمكث الطفل عند ختانه من شروق الشمس حتى غروبها خارج المنزل، ويتكرر ذلك على مدار 7 أيام متواصلة، ثم يعود إلى بيته، ويبدأ حياته من جديد.
  •  

كيف نحتفل؟

تُرك الباب مفتوحاً في اختيار فضاء الاحتفالات، إذ يكون للأفراد والمجموعات والجهات المحتفلة باليوم اختيار الحيز الجغرافي الذي يرونه مناسباً، حسب إمكاناتهم، والظروف المحيطة بهم، مع تفضيل توحيد الجهود لتكون الاحتفالات أكثر تنظيماً، وأكبر عدداً، وأكثر جذباً لوسائل الإعلام، إلى جانب تنويع البرامج، والابتكار فيها، وحسن إخراجها، مع مراعاة عدم الإخلال بالقيم الأخلاقية والعادات والتقاليد المتبعة؛ ليأتي اليوم بكل زخمه لائقاً بالحضارة النوبية وإنسانها.

وددت ونحن نطلق مجلة نوبيانا وموقعها الإلكتروني في فضاء العالم الواسع ليكون وسيلة من وسائل التعبير عن حضارتنا، نتفق عليها، ونتحلق حولها، على ما قد ينشأ بيننا من اختلافات لا خلافات، ووددتُ أن يكون بيننا أخي الأستاذ محمد سليمان ولياب، لثقتي أنَّه كان سيكون من أسعد الناس، ولكن نشعر بروحه تبارك هذا العمل، الذي يأتي في يومه “اليوم النوبي العالمي”، الذي نأمل أن يأتي رائعاً كروعة حضارتنا، أن نتدافع جميعاً لتقديم الأحلى والأجمل؛ لإبراز ثراء ثقافتنا، ورسوخ فننا، ورفعة أدبنا، و سمو قيمنا بإنسانيتها المفرطة، واحتفائها بالحياة، ورفضها كل أشكال الإفناء، من أجل وطن يستوعب الجميع، وعالم أكثر رحابة وحفاوة بالإنسان مهما اختلفت الأجناس، والألوان، والانتماءات، والمشارب.

والتحية للرابطة النوبية وهي تحتفل بيوبيلها الفضي بشكل مبتكر، من خلال تقديم هذه النافذة الإعلامية التي تتحدث لغة العصر إلى أهل النوبة في كل بقاع الأرض، والتحية لها وهي تختار اليوم النوبي العالمي تاريخاً لإطلاق مبادرتها، وتتيح لنا المجال للحديث عن إنسان أحب النوبة وأهلها، فخلدوه بالتمسك بهذا الاحتفال ما بقيت الحياة؛ ليأتي اسمه مقروناً سنويَّاً بما أحب.