إنَّ نهضة مناطقنا الغارقة في تراث الحضارة القديمة بالمنطقة النُّوبيَّة، تمثِّل فرصة لا مثيل لها، تدفعنا إلى تعزيز حركة السِّياحة المحليَّة والإقليميَّة والعالميَّة، وهذه الإمكانيَّة ليست مجرد بقايا لتطلعات تاريخيَّة، أو خفايا خفوق لعوامل تراثيَّة تستمد رونقها من حضارة عالميَّة عريقة، كانت سائدة ومازالت منذ آلاف القرون. ولكنها قوة ديناميكيَّة يمكن تسخيرها والاستفادة منها من خلال مزيج استراتيجي من مشروعات لريادة الأعمال مع المشاركة مع منظمات المجتمع المدنيّ.
تُعدُّ المشروعات متناهية الصغر والصَّغيرة والمتوسطة حجر الأساس للنموِّ الاقتصاديِّ، وخلق فرص عمل لفئات كثيرة بالمجتمعات الريفيَّة. فهي أعمال مرنة، وقابلة للتكيُّف، ومتجذِّرة بعمق في المجتمعات المحليَّة؛ بخاصّة عندما تكون هذه الشركات موجَّهة نحو الأسرة، فإنَّها تصبح أكثر مرونة؛ لأنَّ مشروعات الأسر المنتجة من أفضل الممارسات العالميَّة طلباً، بخاصة في عصر يتَّسم بالتغيُّر التكنولوجيِّ السَّريع، وعدم اليقين الاقتصاديِّ. إنَّها مشروعات تعزِّز الشُّعور بالمسؤوليَّة المشتركة، ونقل المعرفة بين الأجيال، في ظلِّ أمة ذات حضارة عريقة تستلهم قوتها من أخلاقيّات العمل المتوارثة والممتدَّة من جيل إلى جيل، لتقدِّم للعالم جملة من خصائص تلك الأخلاق، والمتمثِّلة في أمانتها وصدقها وجدارة منتجاتها من السِّلع والخدمات المرتبطة بتراثها، وحضارتها، وعاداتها، وتقاليدها المتفرِّدة.
تبدأ معظم مشروعات ريادة الأعمال التجاريَّة، ومشروعات الأسر المنتجة باقتناص الفرص المتاحة بالمنطقة، والسُّوق، وإجراء دراسة أوليَّة سريعة لتحديد وصقل الفكرة الابتكاريَّة التي سيجري تنفيذها طوال دورة حياة المشروع، مع العمل على تطويرها من خلال مرحلة الاختبارات التجريبيَّة، وإجراء التقييم المناسب للفكرة بالاعتماد على دراسات الجدوى الضروريَّة (السوقيَّة، والماليَّة، والفنيَّة) التي تسبق عادة دراسة الجدوى الرئيسة أو النهائيَّة للمشّروع.
يجري على سبيل المثال في مرحلة تقييم الفكرة، اتِّخاذ القرارات الإداريَّة المناسبة كافة التي تسبق تنفيذ المشروع، وهي القرارات المبنيَّة على إثبات بعض المفاهيم المتعلِّقة بالمشروع، مثل: اعتماد الأدلَّة والبراهين الموثَّقة، أو الداعمة لفكرة المشروع وطبيعته (Proof of Concept)، كما يراعى في مرحلة لاحقة، إجراء تقييم شامل للمشروع قبل إعداد مؤشرات الأداء الفرديَّة والرئيسة، وتحديدها، مع ضرورة دراسة بعض القراءات المتعلِّقة بالمشروع، وتحليلها، ومراجعتها، من قِبّل المصادر المحليَّة أو العالميَّة المعتمدة.
ولما كانت منطقتنا، تنعم بموارد طبيعيَّة ومواد خام وفيرة، فهذه الموارد كنز دفين ينتظر من يستكشفها. ويكمن التحدِّي في تحويل هذه الأصول إلى مشروعات اقتصاديَّة قابلة للحياة. على سبيل المثال، يمكن إطلاق مشروعات سياحيَّة صغيرة الحجم بأقل قدر من الاستثمار، ولكنها تحقق عوائد كبيرة. خذ في الحسبان كثيراً من الأفكار لمشروعات ريادة الأعمال، التي تتصدَّى لها، أو تقوم بها أفراد أو مجموعة تنتمي لأسر وعائلات متعاونة فيما بينها.
يمكننا على سبيل المثال ذكر بعض الاقتراحات العمليَّة لمشروعات تعزز من حركة السِّياحة المحليَّة، بخاصة أنَّ مناطقنا جاذبة لزيارة أفواج من السُّيَّاح والقادمين إليها من مختلف الولايات والمحافظات سواء داخل السًّودان أو مصر، والمنطقة الإقليميَّة، ومن العالم أجمع. كالاستفادة من استخدام العمارة النُّوبيَّة ذات الطابع التراثيّ في تقديم تجارب نوبيَّة أصيلة، مثل المنازل النُّوبيَّة التراثيَّة المبنيَّة من مواد محليَّة، وتحويلها إلى نُزل للرَّاحة وفنادق صديقة للبيئة، أو تجهيزات في شكل مطاعم تعرض الأطباق النوبيَّة التقليديَّة، وجولات طهي بقيادة كافة أفراد المجتمع المحليّ؛ أو تحويلها إلى معامل ودور لورش حرفيَّة محليَّة، تنتج مصنوعات يدويَّة مستوحاة من التراث النوبيّ. مستفيدة من طين جروفها وسعف نخيلها وجلود حيواناتها، إذ لا تُدر هذه المشروعات دخلاً ماليّاً للأسر المنتجة فحسب، بل تحافظ أيضاً على الهويَّة الثقافيَّة النوبيَّة، واستدامة مقومات الحضارة النوبيَّة.
إنّ تحقيق الاكتفاء الذاتيّ على مستوى الأسرة هو حجر الزّاويَّة في التنميَّة المستدامة. وأحد أهم مؤشرات التنافسيَّة العالميَّة، ومن الممكن إقامة القرى النموذجيَّة الذكيَّة، حيث تتشابك ريادة الأعمال ورفاهيَّة المجتمعات التي تقطنها، حتى تصبح بمثابة منارات للتقدّم، والرقي والاستدامة للحضارة النوبيَّة والاستدامة البيئيَّة. ولا تعمل هذه القرى على تحسين نوعيَّة الحياة للمقيمين فحسب، بل تجتذب أيضاً مزيداً من السياح والباحثين عن تجارب لحضارات أمميَّة أصيلة. مع تزايد ترابط العالم وتكاملها، سوف تنتشر شهرة وسمعة تراثنا النوبيّ على نطاق واسع، مما يجذب مزيد من الزوار المتحمسين لاستكشاف هذه الزاويَّة الفريدة من العالم.
لا يمكن إنكار التآزر الحضاريّ الذي يتمتَّع به كل إنسان نوبيِّ في حياته، والانسجام العاطفيِّ الذي يجمع فيما بينهم من جهة، وبين حضارتهم التي تجمعهم، وتُشكِّل كيانهم من الجهة الأخرى، وهو العامل الأهمُّ الذي يجب أن نعتمد عليه للاستفادة من مقدراتنا تجاه تعزيز حركة السِّياحة إلى المنطقة بالتسويق لآثارنا، وزيادة الزيارات الاستكشافيَّة من الباحثين إلى مناطقنا. إذ لا يتأتَّى تحقيق كل ذلك من غير تكاتف أبنائها، وتعاون جمعياتها، وشراكة الكيانات المجتمعيَّة العاملة بالمنطقة، وفق رؤى علميَّة معاصرة نحو إقامة مشروعات عمل متناهيَّة الصغر وصغيرة ومتوسطة ومشروعات للأسر المنتجة، وتوجيهها للصالح العام، ولصالح الفرد النوبيِّ. فالمشروعات الأسريَّة المنتجة توفر السِّلع، والخدمات لصناعة السِّياحة، التي تُعدُّ في رؤيَّة 2030 أحد أهداف التنميَّة المستدامة للأمم المتحدة، في حين تخلق أعمال المسؤوليَّة المجتمعيَّة للمشروعات في قطاع السِّياحة، الطلب على المنتجات والخبرات المحليَّة، فيكون الفرد منتجاً بأقل التكاليف، متمتِّعاً بأقل الاشتراطات التي تحكم تحدِّيات الأعمال، والوظائف المتاحة للشّباب في العالم، وهذا ما يجعل من المشروع عائداً جيِّداً للاستثمار الذاتيِّ، ينتشل مجتمعات بأكملها من الفقر إلى الرفاهيَّة، ويخلق اقتصاداً مزدهراً للمجتمعات الريفيَّة.
أمثلة لأفكار مشروعات تنمويَّة
فيما يلي أمثلة لبعض مشروعات رياديَّة الأعمال القابلة للتطبيق في المنطقة النوبيَّة، أو مشروعات الأسر/العائليَّة المنتجة التي يمكن تنفيذها في مناطقنا الغنيَّة بالتراث النوبيّ والموارد الطبيعيَّة:
الزراعة العضويَّة والسِّياحة الزراعيَّة: يمكن للعائلات والأسر النّوبيَّة الاستفادة من أراضيهم الزّراعيَّة ذات التربة المتجدِّدة؛ لزراعة محاصيل عضويَّة متنوِّعة، مثل: التمور، والخضروات، والفواكه، كما يمكنهم بعد ذلك توفير جولات سياحيَّة للزوَّار لتجربة قطف الثّمار، وتعلم تقنيات الزّراعة العضويَّة.
تربيَّة النحل وإنتاج العسل: يٌعدُّ النحل من الثروات الطبيعيَّة المهمَّة في المنطقة، ويمكن للعائلات إنشاء خلايا نحل منتجة، وتسويق عسل التمور النقيّ ذي الجودة العاليَّة، والمتفردة عالميَّاً، إذ يمكنهم أيضاً تنظيم ورش عمل حول تربيَّة النّحل، وإنتاج عسل التمور، وتذوُّقه.
الحرف اليدويَّة التقليديَّة: يمكن إعادة إحياء الحرف اليدويَّة التقليديَّة النوبيَّة، مثل النسيج والسّلال من سعف النّخيل، والفخار من طين الجروف، ويمكن للعائلات إنتاج منتجات فريدة من نوعها، وتسويقها، وبيعها للسّياح في الأسواق المحليَّة، أو عبر مواقع شبكة الإنترنت.
السِّياحة البيئيَّة: يمكن الاستفادة من المناظر الطبيعيَّة الخلابة بإقامة الرحلات السياحيَّة النيليَّة، والسِّياحة لاستكشاف الوديان في المنطقة، من خلال تطوير أنشطة سياحيَّة بيئيَّة مثل: التخيّيم، وركوب القوارب، ورحلات السّفاري، وتسلّق الجبال المتاخمة لمناطقنا بالولاية الشَّماليَّة.
إنتاج المنتجات الغذائيَّة التقليديَّة: يمكن للعائلات إنتاج الأغذيَّة التقليديَّة النوبيَّة مثل الخبز، وأكلات المطعم النوبيّ من البقول المحليَّة، وأسماك النّيل، والمشروبات، والبهارات، وتسويقها في المطاعم والفنادق التي ستُقام خصيصاً في شكل قرى سياحيَّة، وتراثيَّة.
تحقيق النجاح والصدارة لمستقبل هذه المشروعات
يجب التركيز في تطوير سلاسل القيمة المحليَّة والعالميَّة بأكملها، بدءاً من تحسين عمليَّات الإنتاج وصولاً إلى التسويق والتوزيع من خلال:
التعاون مع منظمات المجتمع المدنيّ المحليَّة/العالميَّة غير الحكوميَّة: لتقوم بتقديم الدعم التقنيِّ والماليِّ، وتوفير التدريب والتطوير للعائلات؛ لتنفيذ المشروعات في مجال ريادة الأعمال، وإدارة أعمال الأسر المنتجة، إضافة إلى الاستفادة منها في تعزيز حركة السِّياحة المحليَّة والإقليميَّة والعالميَّة.
بناء الشراكات مع القطاع السياحيِّ الخاص: الإسهام في توفير التمويل، وتسويق المنتجات، وتوزيعها في أسواق خارج المنطقة، ومن الناحية الأخرى الاستعانة بالأيدي العاملة المحليَّة عند إقامة المشروعات، وإدارتها.
تطوير العلامات التجاريَّة المحليَّة: يمكن إنشاء علامات تجاريَّة قويَّة للمنتجات النّوبيَّة لتعزيز هويتها وتسويقها في الأسواق المحليَّة والدوليَّة، مع التركز في الحفاظ على البيئة والثقافة المحليَّة
الاستفادة من القنوات التسويقيَّة: المتاحة بمنصَّات التواصل الاجتماعي، ومواقع الإنترنت، والتطبيقات الذكيَّة في عمليَّات الترويج للمنتجات، والخدمات، والتفاعل مع العملاء.
استدامة المشروعات
لتحقيق الاستدامة في المشروعات الرياديَّة والمشروعات العائليَّة، يجب التركيز في الآتي:
الموارد الطبيعيَّة: يجب استخدام الموارد الطبيعيَّة والخامات الأوليَّة بشكل مستدام، مع تجنُّب تراكم النفايات وأنواع التلوُّث كافة.
الحفاظ على التراث الثقافي: يجب الحفاظ على التراث الثقافيِّ النوبيِّ، وتشجيع السِّياحة الثقافيَّة والمعرفيَّة بالحضارة النّوبيَّة.
تطوير المجتمعات المحليَّة: يجب الاستثمار في تطوير المجتمعات المحليَّة من خلال توفير فرص العمل، والخدمات الأساسيَّة، والتوعيَّة، وتدريب روَّاد الأعمال على كيفيَّة إقامة مشروعاتهم الرياديَّة الخاصّة، سبيلاً إلى نمو مجتمعاتنا، وتطوُّرها.
الخلاصة:
تتمتَّع المناطق النّوبيَّة بإمكانات هائلة من الموارد الطبيعيَّة، والثقافيَّة، والخامات الأوليَّة المتاحة بوفرة بالمنطقة؛ إذ يمكن الاستفادة منها في إقامة مشروعات رياديَّة عائليَّة ناجحة، تكون ثورة ذاتيَّة لنهضة نوبيَّة ملموسة، تحقق بها المنطقة أهداف التنمية المستدامة المتمثِّلة في تحسين مستوى معيشة السّكان المحليين، سبيلاً إلى إعادة سيرتها الحضاريَّة الأولى.
لتحقيق جملة هذه الأهداف، من الضروريِّ أن نستثمر في تدريب روّاد الأعمال، ودعمهم، وبخاصّة النِّساء والشَّباب. والعمل على تمكينهم بمزيد من الأفكار، واتِّخاذ زمام المبادرات النّاجحة. لهذا دعونا نسخِّر روح النوبيِّين القدماء، ونستدعيها حاضرة مُجسَّدة أمامنا، لنبني عليها مستقبلًا لا يكون فيه الحفاظ على تراثنا الثقافيّ أو الحضاريّ فحسب، بل يكون الاحتفال به ومشاركته مع العالم.