لم تجد نفعًا كل حكايات الرّعب التي أفرغتها أمّي في أذني عن الجن و»الاركبي» و»الأمن دالا» (أظنُّهما الغول والعنقاء) التي تتربص بالأطفال، وهي تحاول أن تثنيني عن الخروج إلى اللّعب ذات نهار قائظ يفلق الحجر حرُّه ..فما أن طرق أذني صوت عربة تقترب حتى انتفضتُ من بين أحضانها وانطلقتُ حافي القدمين – كالعادة، إذ لم نك آنذاك قد عرفنا ترف التَّحذِّي بحذاء حتى لو كان من نوع البلبل-، ومرقت كالسّهم متجاهلاً صرخاتها ووعيدها.

وقفت على مصطبة منزلنا أرنو جنوباً استطلع أمر العربة، وتهيأت للانطلاق إلى (مكمن الشّعبطة) المعتاد في المنحنى الرَّملي.. لكن الدم تجمّد في عروقي وتسمّرت قدماي حتى أنّني عجزت عن الانسحاب إلى داخل المنزل.

***

ماهذا الشيء العجيب الذي يقترب مني؟

ترى هل هو القطر الذي نسمع عنه؟ أم أنًّ ما حذّرتني منه أمي قد استحال حقيقة؟ هل هو «الأمن دالا» أم «الأركبي»؟ أم أنّ جنًا يتأهب لاختطافي؟

***

وتيرة الهواجس ترتفع.. والشئ العجيب يزداد اقتراباً.. معالمه الآن واضحة أمامي.. صندوق كبير من الحديد يسير على عجلات أربع.. الشكل أقرب إلى اللّوري، لكنه صغير جدَّاً بالمقارنة وليس به زوايا ولا «تنده”.

أتراه «لورِنكتِّي”؟ ولكن هل تلد اللواري، مثلما يخرج «الكَجِنكَتّي” من بطن الأتان؟

لماذا يسير هذا الشيء في اتجاهي مباشرة؟ من أسأل .. وماذا أفعل؟.

واستجمعت كل قواي لأطلق صرخة استنجاد، ولكنها علقت في حلقومي.. وقف الصندوق المتحرك قبالتي تماماً.. انفتح بابان، وخرج منهما ثلاثة من البشر..أحدهم من كان خلف المقود. أحد الاثنين الآخرين مربوع القامة يميل لون بشرته إلى السّمرة، والآخر أطول منه، أبيض اللون، و»أقيْف”، فوق أنّه غارق في جلابية ناصعة البياض نظيفة، ويعتمر عمامة «ملفوفة» بإتقان يوازي «حرفنة” ناظر المدرسة شرف الدين محمد شريف.

استعادت نفسي هدوءاً نسبيّاً عندما وجدت ثلاثتهم يتحدثون مثلنا، قبل أن يقترب (الأبيضاني الفارع) من المصطبة التي أقف عليها، حاملاً شيئاً يشبه طنبور علي بخيتة، وإن كان أكبر حجماً. وبلا مقدِّمات بدأ في عزف منفرد قبل أن يطلق العنان لحنجرته، وينخرط في الغناء بصوت عالٍ.. أمامي أنا وحدي فضلا عن صاحبي!

غير أنّي لم أعر كلّ هذا اهتماماً، إذ كنت منشغلاً بهذا الصندوق الكبير الرابض على العجلات الأربع، ورحت أتحسّسها بفضول وحذر شديدين.

وما هي إلّا دقائق حتى امتلأ المكان بأهل الحِلَّة والحَلّال المجاورة، وغصّت الفسحة الرّحبة الممتدَّة أمام منزلنا بالناس من كلّ الأعمار، وانخرطوا جميعاً في الترديد وراء الصوت الشجيّ:

تافافينا أُنَتُّوني

Ta fa faina unnattuni

ألِى فامينكنقون وَلُ

Eli fammainkangon wallo

تَا فَافينا أُونتُّونِي

Ta fa faina unnattuni

تربَرِين وِلدَمنُّودو

Torbariin wildamennudo

كريق دوماقون

Kerraig dommagoon

نرن نابنقلّكنِي

Narin nabangellkini

رزقيكون تا نور فاقِني

Rizikkon ta nor faqqini

أرجيق كَبْجَا فِيجكوقون

Arjaig kabja fiigkoogoon

تافافينا أُونَاتوني

Ta fa faina unnattuni

سوكَّا وِيركِيتِّي إنْ كلَّى

Sokka werkitti in kellee

تَولوق مامى قور مَلَّي

Tawolog mame gor malle

سياسِينقا تانجوجا

Seyassinga tanjjoja

مَرْجَا مَرْجَاك جيريلّوقون

Marja marjakka jeerillogoon

نبن دِركَ إدردَينجا

Nabin dirk idrdainja

سكّوت ويرا؟ ..

Sikkoot waira

حلفا ويرا؟

Halfa waira

محس ويرا؟

Mahas waira

دونيان أُوووقسين أُوقيلتون

Doonian ugseen ugiltoni

أورو كالورونسن ادّيرا

oro kalonorsen eddaira

وبالطبع لم نكن ندري آنذاك وعرفنا لاحقاً (اقصد جيلنا)، إنَّنا كنّا في حضرة جلالة الفنّان وردي …وأنّه كان في أتون حملة انتخابيّة لصالح مرافقه مربوع القامة زوج أخته المحامي حسن عبد الماجد مرشح جبهة تقدمية يقودها الحزب الشيوعيّ، تحت لافتة مرشح مستقل.. وكان رمزه الانتخابي الهلال: أُنَتُّي (unnatti).

أمّا» الصّندوق العَجِيب» فعرفنا لاحقاَ أيضا أنَّه نوعٌ من العربات يُسمَّى «اللاندروفر» وقد وطأت أرض قريتنا في ذلك اليوم لأوّل مرّة .

أمّا سائق اللاندروفر – أو الـ (لورنْكتِّي) فقد كان عمَّنا سيّد علي همد.. .

تخريمة: هذه أغنية، أو قلْ نشيد، بالنّوبية تتحدث عن أمانٍ عريضة، وبأنَّ الهلال سيطلُّ في آخر المطاف.. إن لم يكن اليوم فغداً.. كما تتغنَّى بالأنفة التي يتمتّع بها أهل النّوبة حتى وإن كانوا فقراء، وليتني أجد أحداً يقوم بنقلها ٳلى العربية لفائدة الجيل الذي لم يحظَ بحضور تلك الانتخابات التي نظِّمت قبل أشهر من انقلاب نميري في مايو عام 1969م، وكان قد خاض غمارها في دائرة السِّكّوت والمحس المحامي حسن عبد الماجد، في مواجهة الدكتور محيي الدين صابر عن الاتحاديّ الديمقراطيّ ، وفاز بها الأخير..

تخريمة حديثة : رحم الله كل من رحلَ ممّن ورد اسمه في هذه اللّقطة من (تلافيف الذّاكرة)..ورحمنا وإيّاكم..وأقدِّم أسفي لمن حرمه المولى عز وجل من نعمة الانتماء للأمّة النّوبية وعجز عن فهم معنى هذه الكلمات ولا مناص أمامه من أن يستعين بأيّ صديق نوبيّ لمقاربة المعنى فالترجمة خيانة.