مع مرور الأيام وظهور المستجدات، أصبح من الضّرورة تحقيق أحلام تليدة حفظاً لإرث الأجداد من الاندثار، ومدخل الحفاظ على الثّروات الثّقافيّة والاجتماعيّة الاهتمام بتفعيل حُلم ظلّ يراود المهتمّين الحادبين على لملمة أطراف التاريخ النّوبيّ من الانزواء، بمحوّ الأُميّة النّوبيّة للأجيال الجديدة بتعليمهم الكتابة والقراءة بلغة الحضارة.
اشتراطات الدّراسة
كثير من التّجارب الجادّة مضت في هذا الاتّجاه قُدماً عبر تمليك النّوبيّين الحرفَ النّوبيّ ، كان أهمها تجربة مركز الدّراسات النّوبيّة، وكان عنوانها: الدّورة المكثّفة الأولى لدراسة النّوبيّة عن بعد، والتي اشترطت أن يكون الملتحق بها مُجيداً للتحدّث بالنّوبيّة، أو أن يكون مقيماً في بيت به من يجيدها من أهله، وأن يكون المشارك مُلمَّاً بالأبجدية الرّومانيّة (الحروف الانجليزيّة)، حيث استخدمت وسيطاً لشرح قواعد نحو اللّغة النّوبيّة وصرفها وقواعد نطقها، وفي هذا المجال، رُفع كُتيب صغير للمشاركين يحوي الأبجدية النّوبيّة وما يقابلها في الأبجديّة الإنجليزيّة، ومعها مجموعة من الرّموز المساعدة للفصل بين جذع الكلمة ولواحقها ونهاياتها، أي قواعد النّحو والصّرف، وبعض المقاطع الصّوتيّة كقواعد للنّطق..
ومن بين الاشتراطات أيضاً توفّر معرفة التّعامل مع الوسائط ووجود إنترنت، مع ضرورة تفرّغ المشارك لمدّة ساعة يوميَّاً لمدة 15 يوماً، حيث جرى تحديد الفترة استناداً إلى تجارب سابقة، وكان عدد من انتظموا في الدّورة 15 فرداً، 10 منهم من الإناث، وغلبت عليهم شريحة الشّباب.
أما الوسائط التي استُخدمت في التدريب فكان فيسبوك؛ لنشر حصيلة اليوم التدريبيّ، والواتساب للتواصل بالصّوت والصّورة وطرح المحتوى، ثم البريد الإلكترونيّ لاستلام الملفات.
القواعد والاظهار الكتابيّ
عقدت الدّورة في التّوقيت المسائيّ لتتناسب مع ظروف الجميع، بعد أن جرى استبيانهم باستخدام (جوجل فورم) عن التوقيت الأنسب، فاختارت معظم الإجابات الفترة المسائيَّة. عقبها وُزع المحتوى التدريبيّ على أيام الدّورة، وكانت الخمسة الأيّام الأولى لتمليك الحرف النّوبيّ، وعشرة أيام للنقاشات حول عبارات وجمل نوبيّة مختارة من الدّراسين لبيان مختصر قواعد النّحو والصّرف، والتدرُّب على كيفيّة كتابتها بطريقة صحيحة، وتعلّقت المناقشة بشرح العلاقة بين قواعد نحو النّوبين والإظهار الكتابيّ، والفروق الملحوظة بين طريقة النّطق وطريقة الكتابة.
جاءت المواد المكتوبة في كُتيب من 10 صفحات عن تمليك الحرف النّوبيّ أو «أبجديّة كبّارة»، وطُرح عنوان وحيد هو (إركونّا) «في بلدنا»، وتُركت التفاصيل للمشاركين ليطرح كلًّ مشارك جملة واحدة٫
تنافس كبير
شهدت الدّورة تنافساً كبيراً بين الدّارسين في طرح عبارات نوبيّة شائعة، وهذا ما شجّع على جعلها في شكل منافسة يوميّة، يرسل فيها المشارك نصّ العبارة مكتوباً بالحروف النّوبيّة (وبالكتابة التدريبيّة) للمدرّب أو مساعده على الخاصّ، ويتم إعلان اسم الفائز (الفائزين) كل يوم ومعه الطريقة الصحيحة لكتابة العبارة بالحرف النّوبيّ وبالكتابة التدريبيّة٫
وقد قُسمت كل حصة تدريبية على النجو الآتي: ربع ساعة لتلخيص درس اليوم السّابق، والعبارة المطروحة كمسابقة، وشرح ما فيها من قواعد (قواعد نحو / قواعد نطق/ قواعد إملائيّة)، وخُصّص باقي الوقت لاستقبال العبارات من المشاركين والتدرّب على كتابتها مع بيان ما فيها من قواعد.
في نهاية الدّورة تحقّق الهدف، وأصبح المشاركون والمشاركات قادرين على تحليل أيّ كلمة أو عبارة إلى مكوناتها والتمكن من كتابتها تدريبيّا وبالحرف النّوبيّ . وفي نهاية الدّورة سُجل نصّ نوبيّ بالصّوت، وطُلب كتابتها بالطّريقتين، فكانت النتيجة مذهلة، حيث اجتاز الجميع سقف نسبة 80% بسهولة٫
إيجابيات وسلبيات
ظهرت حزمة من الإيجابيّات عقب تلك الدّورة، منها أنه يمكن تمليك الحرف النّوبيّ بسهولة للشّباب من الجنسين، في وقت لا يتجاوز الأسبوع عبر عقد دورات مكثّفة، لكن التجربة لم تخلُ من عوائق بينها مشكلة (فونط FONT) أي نمط الحرف النّوبيّ في بعض أجهزة الموبايل، بينما مثّلت وسائط الاتصال القيمة المضافة التي يجب استثمارها، خاصة تلك التي تملك إمكانات عرض المحتوى بالصّوت والصّورة٫
أمّا من سلبيات التجربة، فإنّه اكتُفي بعدد 15 دارساً فقط حتى يمكن تقييم النتائج بسهولة، وليُتاح لكل مشارك وقت كافٍ لطرح الأسئلة والمشاركة بإيجابيّة، لكن يمكن زيادة العدد، وربما مضاعفته مع زيادة زمن الحصّة التدريبيّة اليوميّة.
كان النّظام الكتابيّ بالحرف النّوبيّ أكثر الأمور التي استهلكت وقتاً أطول من وقت التّدريب نفسه، وذلك لتعلّقه بدراسة قواعد النّحو والصّرف وفهمها، وقواعد النّطق.
ومن السّلبيات أيضاً عدم وجود أطفال، أو نوبيين لا يجيدون التّحدث بالنّوبيّة، وإلّا لاكتملت الفائدة ولجرى التعرّف على سمات واحتياجات ومُخرجات تلكّ الفئات٫
خلاصة تجربة
هذه التّجربة أكّدت أنّ إتقان كتابة النّوبيّة رهن بعدّة شروط، يمكن اعتبارها الخلاصات العامّة:
لابدَّ من توافر فصل تعليميّ (سواء ماديّ / أو افتراضيّ)، ولابدَّ من توافر منهج تعليمي معد سلفا٫
يجب وجود محتوى تدريبيّ مجهّز سلفاً؛ لتحقيق هدف (أو أهداف) محدّدة.
ضرورة وجود معلّم (أو مدرّب محتوى) متقنٌ لدوره ومدرّب جيداً على استخدام المساعدات التدريبيّة السمعيّة والبصريّة، وقادر على استخدام وسائط التّواصل الاجتماعيّ.
عليه قرّر مجلس أمناء مركز الدّراسات النّوبيّة صرف جهده نحو ما يأتي:
- التركيز على عقد دورات تدريبية (محلية/ أو عن بعد) لمدربي المحتوى (معلم/ ميسّر / مساعد) على النمط نفسه، وبالمحتوى التدريبي ذاته الذي استُخدم في هذه الدّورة، بهدف الارتقاء بمهارات المتطوعين والمتطوعات الراغبين في تمليك الحرف النّوبيّ للنوبيّين.
- التركيز على المساعدات التدريبيّة بخاصّة الكتب المطبوعة (مع تحويل محتواها إلى ملفات PDF) ليسهل نشرها عبر الانترنت )وبالطبع سيكون هذا على حساب أن التكلفة ستكون عالية خاصة، وأن شحة مصادر التمويل قد تعوق تطوُّر هذا الدّور وانتشاره، خاصّة وأنّ المكتبة النّوبيّة لا تزال فقيرة في هذا المضمار المهمّ(.
تجارب عمليّة ناجحة
بالنسبة إلى تجارب تدريس اللّغة النّوبيّة فقد بدأت في ثمانينيات القرن الماضي في جمعية ابريم، وكان ذلك قبل اكتشاف الأبجديّة النّوبيّة القديمة (كنت أملك نسخة مصورة من كتاب التعليم ، لكن فقدته للأسف)، فيما بدأت تجارب ما بعد ظهور الأبجديّة النّوبيّة بجمعية (فاي) في الإمارات بقيادة الرّاحل د. عبد القادر شلبي ورفاقه، وموقعهم المتميز (نباتا)، ثم تبعها مركز الدّراسات النّوبيّة والتوثيق بالقاهرة بنشر كتب لتعليم النّوبيّة، وعقد دورات لتمليك مجموعة منتقاة من الشعراء وبعدهم معلّمات المدارس الابتدائية للحرف النّوبيّ بقيادة الرّاحل محمّد سليمان جدوكاب.
وبعد رحيل مركز الدّراسات النّوبيّة والتّوثيق للخرطوم، تبنّت عدّة جمعيّات نوبيّة الفكرة، منها جمعية توماس وعافية، برئاسة الراحل أحمد إسحق، وجمعيّات أخرى كجمعية كنداكة في القاهرة، وأبوسمبل في القاهرة والإسكندرية، ودابود بالقاهرة والإسكندرية، ومرواو في السّويس والإسكندرية، وهكذا، ولا يزال عطاء بعض هذه الجمعياّت مستمرَّاً إلى اليوم.
وهناك تجارب مماثلة في مركز الدراسات النّوبيّة (الذي أُنشيء في أبوسمبل ليحلّ محلّ سلفه مركز الدّراسات والتّوثيق بعد رحيله للخرطوم)، وإن انصبَّ الاهتمام على ملء الفراغ الناشئ عن رحيل مركز الدّراسات والتّوثيق، ثم اقتصاره الآن وتّركيزه على تدريب ومدّ المتطوعين بالكتب التي تساعدهم على أداء رسالتهم.
وخلال فترة كورونا استثمرنا برنامج (زووم) على نطاق ضيّق في مركز الدّراسات لعقد لقاءات مع المتطوعين، ومناقشة عموم إشكاليّات كتابة النّوبيّة بالحرف النّوبيّ، وتحديداً في 7 لقاءات.
كان كلّ ما سبق لمحة سريعة حول التعليم بالاتّصال المباشر (باستثناء موقع نباتا التي ركزت على التعلم الذاتي).